ملحمة ملحم

01 نوفمبر 2016

ملحم بركات.. عنوان الأغنية الجميلة

+ الخط -
قولوا لجموع المعزين: "على قبر ملحم بركات لا يجوز إلا الغناء"، أما البكاء فدعوه لصمت العود الذي تقطعت أوتاره، والناي الذي انسدّ فضاؤه، والبيانو الذي تيبست أخشابه، ومن أراد العزاء فليذهب إلى جوقة الآلات الموسيقية التي أراهن أنها لن تستجيب، بعد ملحم، لأي مايسترو على المسرح.
وحده ملحم بركات من أقنعنا أن الغناء "ملحمة"، وليس محض وقوفٍ بارد على الخشبات، وكأنه مقاتل إغريقي يدوّن أغنيته الأخيرة قبل الموت، فيصطحب معه حشد بلابل، وفيلق فراشات، وكتائب من زهر الغابات، وينتصب رافعاً راية الأغنية التي يحارب بها رتابة الزمن.
من صوته عرفنا رقة الجبال، وهي تنحني لعصفور مبتلّ، والغابات التي تتصحّر حزناً على زهرة داسها وعلٌ شارد.. ماردٌ يتقن القتال الموسيقيّ حتى الكمنجة الأخيرة.
لا أحزن على رحيله، بل أحزن على رحيلنا عنه، نحن الأمة التي حاول ملحم بركات، وسواه من رعيل الفن الأصيل، انتشالها من نفق الرداءة الذي تمضي إليه بكل قواميس "بوس الواوا"، و"الطشت ألّي" من دون جدوى، لتكمل دورة سقوطها السياسي بسقوطها الفني.
ولفقدانه وجعان، خاص وعام، لكل من عرف قيمة "شباك الحبيب" الذي يجلب الهوى، ولمن يعرف جيداً لمن "ينحني الزهر"، فعلى أبجدياته تعلمنا فنون العشق تحت النوافذ في ليالي المطر. وعلى صوته صعدنا كما "يصعد الغجر إلى السماء".. وأعترف أنني منه تعلمت أن أحب "تيبطّل الغيم يركض ورا الغيم، ويبطّل الموج يركض ورا الموج"، وهي فنونٌ لم تعد تدركها أجيال، أغرقتها أغاني الزمن الرخيص.
في ريعان الشباب، وعلى وقع أغنيته مع جورجيت صايغ، التي سمعتها ذاك الصباح أمام الكلية العربية في عمان "بلغي كل مواعيدي.. وقت اللي إنتي بتريدي"، قرّرت أن أستجيب لندائه، بانتظار الحبيبة التي لم تأتِ أبداً، وأبقيت مواعيدي معلقةً حتى اليوم، غير أنني لم أندم، لأنني تعلمت في الانتظار، كيف يتخمّر العشق ليصبح قصائد، وكيف أستحضر الحبيبة مع كل حمامةٍ تهدل في الصباح، وكيف أقبل شفتيها مع كل وردةٍ تتفتح في الحقول.. لم أخسر رهاني معه، لأنني تتلمذت على صوت محاربٍ يدفعني إلى الموت عشقاً، من دون أن تفارق الابتسامة شفتيّ.
واليوم، أجدني مدفوعاً، أيضاً، لإلغاء كل مواعيدي، لأرثي معلمي القديم، بالغناء وحيداً، فوق جبلٍ مشرف على قمة السماء، محتفلاً بروحه التي وجدت طريقها بين النجوم، تلك التي ظلت ترتفع جبهته إليها، وهو يدفع صوته بعيداً صوبها على خشبة المسرح، وكأنه يريد انتشالنا من مقاعد المتفرجين، إلى صميم "الملحمة" التي تستفحل في خلاياه وأعصابه كلما غنى.
أعلق كل مواعيدي؛ لأعيد شحنات الشغف القديم، بما يحمله صوته من وعدٍ بزمن يبجّل الفرح بعاشقين جديدين يحتفلان بأول قبلة، فتفزّ رفوف السنونو من أوكارها احتفاء بقطاف الكروم، وأعلّق مواعيدي، لأن الزمن كله توقف بانتظار أغنيةٍ جديدةٍ لملحم بركات، تعيد إليه توازن دقائقه المترنحة.
وأعلق كل مواعيدي، لأنني أدرك، جيداً، أن رحيل ملحم بركات لا يقل فجيعة عن رحيل رموز ثفافية وفكرية عربية كبيرة، على غرار محمود درويش وسواه، تتعاظم حاجتنا إليها في هذه المرحلة، تحديداً، التي يُحاربُ فيها الجمال والفرح والحب بالأحزمة الناسفة. ولستُ مبالغاً إذا اعتقدت أن أكثر المبتهجين برحيل ملحم هم أصحاب السيوف والبلطات، ممن يتسيّدون المشهد العربي الآن، ويدرجون الأغنية والموسيقى، في خانة الكبائر، وليس في خانة الشرف الحضاري، كما تفعل الأمم الأكثر رقياً وتقديراً للفنون، علماً أن الدفاع عن الأغنية الجميلة، والقصيدة العظيمة، لا يقلً وزناً عن الدفاع عن الأوطان.
سأعلق كل مواعيدي على ضريحك، يا ملحم، ولست خاسراً؛ لأنني بانتظار "ملحمة" جديدة.
دلالات
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.