غزة تحب الحياة أيضاً

02 سبتمبر 2015
+ الخط -
أن تطرأ غزة على سمعك، فهذا يعني أنك بانتظار الحديث عن الأزمات والويلات والمصائب التي حطت على رؤوس أهل القطاع، منذ وقت بعيد. وأن تبحث عن غزة في مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا يعني أنك أيضاً أمام تقارير حول الحصار وإغلاق المعابر والحروب التي قضت على آلاف من سكان هذه البقعة الضيقة من العالم. وأن تفكر بمشاهدة أي فعالية ثقافية أو فنية في/ عن قطاع غزة؛ فهذا يعني أنك ستعيش حالة الخوف من صور الدمار والموت. لكن، العارف بغزة هو من يوقن بأن على هذا المكان ما يستحق الحياة، على الرغم من العتمة التي تحاصره من كل جانب، وبأن أهلها يؤمنون بقول غسان كنفاني إن لكل فرد في هذه المدينة دور، فعليه أن يقوم بفعله/ فِعل حياة.
يدرك العارفون بغزة، وهم قلة، أن غزة تعشق البحر وتحب الموسيقى وتغني كل صباح على أنغام فيروز، حتى إذا جن الليل، ضجت المقاهي والكافيهات والعربات والبيوت بصوت أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ونجاة الصغيرة.
غزة التي لا يعرفها إلا أهلها تؤمن بأن الحياة جهاد وتضحية. لذلك، هي تنتج في شوارعها وحواريها وأزقتها الضيقة مشاريع مبدعين، يحملون في قلوبهم أيقونة الحياة وأشرعة الحرية. غزة التي أنتجت الفنانين والمسرحيين والأدباء والأكاديميين وغيرهم. غزة محمد عساف ومحمد الديري والتخت الشرقي وأحمد عمر شاهين وغريب عسقلاني وعبد الله تايه وعلي أبو ياسين ونبيل الخطيب ورائد عيسى ومحمد الحواجري، غزة كل هذا وكل ما يصعب استحضاره الآن.
أخذت غزة، أخيراً، بأيدينا نحو متعة الفن والموسيقى حد الاندهاش، حين وصلت إلينا دعوات لحضور مهرجان البحر والحرية الذي يقيمه معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى في مركز سعيد المسحال الثقافي. حضرت جانباً من اللقاء، برفقة صديقي الصحفي فادي الحسني، ونسينا مواعدينا الأخرى، لشدة انسجامنا غير المسبوق. فالأغاني والموسيقى والأداء الفني للأطفال يفوق المتوقع، إلى درجة أن كل واحد فينا صار يعلق بكلمة أو جملة في كل مقطع موسيقين في أثناء العرض الثاني لذلك المهرجان، ووقتها فقط قررت، وصديقي، أن نكتب لغزة التي لا يعرفها ناس كثيرون.
فغزة تحب الحياة أيضاً، بل تتوق لأن تحتضن ما تبقى من أمل، لإعادة الروح لمن بترت أيديهم وأرجلهم، ولمن فقدوا أهلهم أو بيوتهم. غزة تحلم بالحرية والبحر الذي سيأتي بالنوارس مع الميناء الذي صار حلماً لكل مواطنٍ، يعيش أحلام الخروج من القفص.
غزة التي يحلم أهلها بالتحليق في الفضاء عالياً كأي بلاد، فلا هي ميناء بري أو بحري أو مطار، كأي دولة أخرى، إنما سجن يضيق بأهله، يحاصرهم ويخنق من تبقى من أمل في روح سكان هذه الأرض. وعلى الرغم من ذلك كله، يسعى الغزيون إلى أن يصنعوا الحياة بالعروض الفنية والمسرحية والأدبية.
هنا غزة التي تستحق الحياة، لأن كل بذرة فيها تعشق هذه الحياة، فتنبت على الرغم من الماء الشحيح، وتكبر على الرغم من حصار الهواء والغازات السامة. غزة برجالها ونسائها يحبون الحياة أيضاً، لأنهم لا يتوقفون عن الدفع بأبنائهم لمزاولة الإبداع في شتى المجالات. ولعل أي زائر غريب لهذه الغزة يدرك ذلك كله مع أول وهلة؛ فغزة، بكنائسها ومساجدها، تعيش حالة انسجام الأصالة والإبداع. وغزة الموت والحياة تعيش حالة/ فعل الحياة الأزلي. وغزة المرض والصحة تمنحنا كل يوم بريق أمل في أنها لن تبقى على هذا الحال، وستصير يوماً ما تريد، لأن أهلها، باختصار، يعرفون الطريق جيداً نحو الحرية. فسلام على غزة، حين تشرق الشمس من مهدها، وحين تغيب في حضن البحر. سلام عليها، لأنها تمنحنا الحب كل دقيقة، وتمنحنا الحياة كل لحظة. سلام على غزة السلام.
32A42304-18CB-46A3-BEBC-6540B69AA29F
32A42304-18CB-46A3-BEBC-6540B69AA29F
يسري الغول (فلسطين)
يسري الغول (فلسطين)