مآلات صفقة التبادل بين حماس وإسرائيل

14 اغسطس 2015

تدريب عسكري من حماس في غزة (Getty)

+ الخط -
تلتزم حركة المقاومة الإسلامية، حماس، وإسرائيل بسياسة تعتيم إعلامي كاملة إزاء المفاوضات الحاصلة على نار هادئة بينهما عبر أطراف أخرى، لإبرام صفقة تبادل جديدة، يطلق بموجبها سراح أسرى إسرائيليين، غير معروف عددهم في غزة، مقابل تحرير مئات من الأسرى الفلسطينيين من ذوي الأحكام العالية. 
والمتتبع لمداولات صفقة التبادل الجارية حالياً بين حماس وإسرائيل على فترات متقطعة، عبر وسطاء إقليميين ودوليين، يتنقلون بين غزة والدوحة وتل أبيب، يستطيع استقراء إشارات صادرة عن طرفي الصفقة الوشيكة.


التعتيم الإعلامي
تولي حماس اهتماماً بالغاً بقضية الأسرى. ولذلك، نفذ جناحها العسكري عمليات أسر عديدة لجنود الاحتلال ومستوطنيه، باعتبار ذلك استراتيجية ثابتة، وشهدت السنوات الماضية محاولاتٍ عدَّة؛ منها ما نجح ومنها ما فشل، كما حصل في حرب غزة 2014، في ضوء الأعداد الكبيرة للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وهناك جزء مهم من أصحاب الأحكام المرتفعة، لا يمكن أنْ تفرج إسرائيل عنهم بسهولة، إذا لم يكن هناك ثمن مقابل.
أما إسرائيل، فعلى الرغم من أن مفاوضات صفقة التبادل الحاصلة حالياً خلف الكواليس تغلق ملفات معاناة عائلات الجنود، بعد أكثر من عام على الانتظار "المؤلم"، لكنها تكشف حجم الثمن الباهظ الذي ستدفعه إسرائيل، ما قد يعرّض أهدافها الاستراتيجية للخطر، لأن النتيجة الطبيعية من تكرار هذه الصفقات مع حماس وباقي المنظمات المسلحة، هو تقوية مواقعها، في الداخل والخارج، وتنامي شعبيتها وجماهيريتها.
تمس هذه الصفقة، كسابقتها في 2011، بقوة إسرائيل الردعية، وتعمل على تشجيع المنظمات الفلسطينية للقيام بعمليات اختطاف أخرى، ويخاطر الجيش بحياة جنوده الذين قد يقعوا في أسرها. وبالتالي، فأن تضحي إسرائيل بالكثير من أجل استعادتهم، فهذه قيمة إنسانية كبيرة، لكنها قد تترجم سياسياً على أنها خضوع لمطالب المسلحين الذين قد يرفعون الثمن المطلوب لتبادل الأسرى.
وقد ظهرت تصريحات لمسؤولين إسرائيليين كبار يطالبون بإبرام صفقة التبادل مع حماس، حيث اعتبر وزير الدفاع السابق، شاؤول موفاز، أن ما وصفها "الرسالة الأخلاقية" تحتّم على الدولة تنفيذ صفقة التبادل، فمن الخطورة أن تتنازل عن أحد أبنائها! لأنهم قد يتنازلون هم عنها! فيما طالب رئيس الأركان السابق، غابي أشكنازي، مرات بإبرام الصفقة، لأنه رئيس أركان جميع الجنود، الأحياء والأموات، ومهم له أن ينظر في عيون جنوده وذويهم ليقول لهم: عملنا كل شيء لعودتهم.
الأكثر صراحة بينهم كان رئيس الحكومة الأسبق، إيهود باراك، الذي أعلن أنه منذ 30 سنة يشترك في مداولات لإطلاق سراح أسرى، وفي هذه المرحلة محظور وقفها، لأنها ألقت عليه التزاماً مهنياً وأخلاقياً لإعادة المقاتلين من الأسر، أحياءً أو أمواتاً.

الضغط الأمني
ما رشح عن مفاوضات صفقة التبادل بين حماس وإسرائيل لا يسعف كثيراً في تقديم تقييم موضوعي عن مآلاتها ونتائجها المتوقعة، لكنه يساعدنا في استعراض عوامل مؤثرة في القرار الإسرائيلي بشأن مفاوضات صفقة تبادل الأسرى، الحاصلة مع حماس:
1- البعد الاستراتيجي، حيث حرصت النخبة الحاكمة في إسرائيل على التأكيد أنها ستعمل كل ما يلزم من أجل عدم إبقاء جنودها في الأسر لدى حماس في غزة، ولا يعتبر هذا الإعلان دعائياً، بل يعكس إدراكاً للأهمية الاستراتيجية لإعادة الجنود الأسرى، لأن إدراك الجنود الذين ينطلقون في مهام تنفيذ العمليات العسكرية أن الدولة ستعمل على إعادتهم، تحت أي ظرف، سيعزز دافعيتهم للانتساب للوحدات المقاتلة والنوعية، وأكثر الأسئلة التي بات يطرحها الجنود لقادتهم: في حال وقعنا في الأسر، إلى أي حد يمكن أن تذهب الدولة في حرصها على إعادتنا؟
2- دور الرأي العام، وهو أحد المعايير المهمة التي توضع بالاعتبار لصنّاع القرار في إسرائيل، ليس فقط بسبب طابع النظام السياسي الذي يعطي وزناً لرأي الجمهور، بل لأن العائلات الإسرائيلية تعي أن الحكومة ستعمل على إعادة أبنائها، إذا وقعوا في الأسر، كما أن طمأنة الرأي العام إزاء هذه المخاوف تشكل عنصراً أساسياً في سعي إسرائيل إلى مواصلة تكريس الانطباع بأن الجيش هو "جيش الشعب".
3- السوابق التاريخية التي تلعب دوراً مهمّاً في موقف النخب الحاكمة بشأن صفقة تبادل الأسرى، على صعيد تشجيع التوصل لها، أو اتخاذ موقف سلبي منها. ولعل السابقة الوحيدة التي تحظى بالذكر، مسوغاً للتحمس للتوصل إلى صفقات التبادل، هو التخوف من موت الطيار رون أراد الذي أسر في لبنان منتصف الثمانينات، وشكلت حالته مسوغاً للدعوات لدفع أي ثمن من أجل إطلاق سراح الأسرى، مقابل العمل على تحرير جنود أسرى.
4- موقف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الذي يعتبر موقف قادتها حاسماً جداً، تبعاً لطبيعة النخبة السياسية الحاكمة، وهم لا يعرضون موقفاً موحداً من صفقات التبادل، ويتفاوت تأثيرهم، حسباً لطابع الفترة التي يتم فيها حسم الموقف من الصفقة.
لكن، من المؤكد أن الموقف من صفقة تبادل الأسرى مع حماس يتأثر بموقف رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، لأن الأسرى الذين سيتم إطلاق سراحهم سيعودون إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي منطقة نفوذ الجهاز، لأنه مسؤول عن مواجهة حركات المقاومة داخلها.
يقول جهاز الشاباك إن 48% من أسرى صفقة تبادل الأسرى مع أحمد جبريل عام 1985 عادوا إلى العمل المسلح، ويزعم الباحث الاستخباري الإسرائيلي، رونين بروغمان، أنه من بين الـ364 أسيراً أطلق سراحهم في صفقة تننباوم، في العام 2006، أعيد اعتقال 30% منهم من جديد لمساهمتهم بأعمال عدائية ضد إسرائيل. وقال رئيس الشاباك السابق، يوفال ديسكين، قبل أسابيع، إن 60% من الأسرى في صفقة التبادل مع حماس 2011 انخرطوا مجدداً في المقاومة المسلحة.
ترى إسرائيل أن حماس التي تأسر عدداً غير محدد من جنودها، ستحصل على نتائج استراتيجية بعيدة المدى، إذا نجحت في تحقيق صفقة تبادل معها، على النحو التالي:
1- ستكون تبعات صفقة تبادل الأسرى المتوقعة أكثر دراماتيكية، وستعمل على تقوية سلطة حماس في غزة، وقد تمهّد الطريق، عملياً، لبسط سيطرتها المستقبلية على الأراضي الفلسطينية بصورة كاملة.
2- باستثناء الإنجاز الكبير الآني الذي ستحظى به حماس، فإنها ستحقق إنجازات مهمة، تأثيراتها كبيرة على المدى الطويل، فعشرات الأسرى الذين سيطلق سراحهم خلال الصفقة سينتقلون إلى الضفة الغربية، وسيقيمون مركزاً سياسياً ومسلحاً، وسيكون لهم دور كبير على تأثير موازين القوى للحركة أمام السلطة الفلسطينية.
3- الأفضلية الأهم التي تراها حماس مفضلة لها، حالياً، تتمثل في تقوية سلطتها في غزة، وتحقيق انفراج حقيقي في معابر القطاع.

معايير نجاح الصفقة
تتمثل النتيجة الأهم لحرب غزة، وفق وجهة نظر حماس، بنجاح الحركة في أسر جنود ومستوطنين، وإخراج بعضهم من ساحة المعركة "أحياء يرزقون"، ما فتح الباب على مصراعيه لسيناريوهات وتوقعات أمنية في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لنتائج صفقة التبادل الجارية حالياً على نار هادئة بين حماس وإسرائيل، على النحو التالي:
1- تنازل إسرائيل واستجابتها لمطالب حماس، وتفرج عن أسرى فلسطينيين، وسيبقى هذاالاحتمال قوياً، طالما أن فرصة عودة الجنود إلى منازلهم أحياء قوية. وبالتأكيد، إذا ما وافقت الأولى، فإن الثانية سيسعدها أن ترمي حبة "البطاطا الساخنة" من فمها، في مقابل حصولها على مئات الأسرى، لكن العائق الوحيد أمام نجاح ذلك أن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أكثر من تصريحاته، وأعلن، غير مرة، عدم خضوعه لما سماه "ابتزاز حماس".
2- أن تنزل حماس عن الشجرة العالية التي وجدت نفسها فوقها، وتتنازل عما تحوزه من جندي أو أكثر، وتعيده سالماً من دون شروط، وما يمنعها عن ذلك قائمة طويلة من العوامل والأسباب، لا مجال لحصرها.

3- أن تسارع إسرائيل إلى تنفيذ عملية كوماندوز لإنقاذ الجندي أو الجنود من الأسر في غزة، ولم يخرج جنرالات الجيش هذا الاحتمال، أصلاً، من أجندتهم، كما فعلوا عام 1994 مع فاكسمان. ولأجل تنفيذ ذلك، تحتاج إسرائيل معلومات استخبارية دقيقة جداً، وهنا تنتظر الاستخبارات الإسرائيلية أن يخطئ الآسرون الفلسطينيون أي خطأ.
4- تجميد القضية عدة أشهر، قد تمتد سنوات، حيث ترتفع حدة ردود الفعل وتنخفض، وحينها ستجد حماس نفسها راغبة بإدارة مفاوضة إسرائيل على نار هادئة.
5- تنازل رمزي وشكلي، بأن يعثر الطرفان، حماس وإسرائيل، على صيغة حل شكلية رمزية، كأن تضطر إسرائيل للإفراج عن بضع مئات من الأسرى وكبار السن، الذين لا يهدد الإفراج عنهم أمنها، وتعلن الإفراج عنهم إرضاءً لخاطر الرئيس محمود عباس، وليس حماس، وستفرج لاحقاً في وقت غير محدد عن آخرين.
6- نموذج الطيار المفقود منذ سنوات، رون أراد، فهناك من يفهم في إسرائيل قول حماس إن ملف الجنود الأسرى قد يطوى، أن المقصود تأجيل البحث في أمره سنوات، وهو حل منطقي سهل لحماس، فهي لن تضطر للإعلان عن قتله/م، ولا أن تعيده/م مجاناً.
بغض النظر عما ستنتهي إليه صفقة التبادل الحاصلة حالياً بين حماس وإسرائيل، فإن قناعة الجانبين أن المقاتلين الفلسطينيين سجلوا نقاطاً واضحة في المرمى الإسرائيلي، منذ اللحظة التي تمكنوا فيها من قتل جنود وجرحهم، واقتياد آخرين أحياء على أقدامهم، أو مصابين، أو أمواتاً، إلى داخل القواعد بأعصاب هادئة، أثارت أعصاب جنرالات إسرائيل.
كما أن احتفاظ المقاومين بما لديهم من جندي، أو أكثر، شهوراً متواصلة بلياليها في غزة، البقعة الجغرافية التي لا يتجاوز طولها 40 كلم، حيث تمتلك إسرائيل أقوى أجهزة المراقبة وأدوات التنصت وطائرات الاستطلاع، وتعجز عن تحديد مكان جنودها الأسرى، بجانب نجاح المقاومة في إدارة حرب أعصاب حقيقية مع إسرائيل منذ اليوم الأول، عبر الشح المقصود بالمعلومات، وتوتير نفسيات قادة الجيش، فيما تبدي حكومتهم "تعطشاً مذلاً" لأي معلومة مهما كانت صغيرة.
وفي وقت تعودت فيه إسرائيل إطلاق التهديدات والإنذارات، وعلى الفلسطينيين الاستجابة لها، والتراجع في اللحظة الأخيرة، تمسك المقاومة، هذه المرة، بزمام المبادرة، وتطلق إنذاراتها، إلى أن تمكنت من دخول ساحة العدو، وإحداث هذه الاختلافات العلنية بين أركان المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية، ليتبادل الجنرالات والوزراء الاتهامات حول التقصير الذي مكّن الفلسطينيين من أسر جنودهم.
أخيراً، على الرغم من أن الساسة الإسرائيليين يؤكدون أنهم لا يمكن أن يرضخوا لما يسمونها "ابتزازات" حماس، حين تأسر الحركة جنوداً إسرائيليين من أجل المساومة عليهم، إلا أن التجربة التاريخية توضح أنهم أجروا مفاوضات سابقة مع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية مرات، إلا أنهم يبررون رفضهم، هذه المرة، بأن حماس عدو يعمل من الداخل، ما يجعل مبدأ المساومة معها ضرباً من المستحيل، والخضوع لمطالبها نوعاً من الانكسار الكبير.

1CF9A682-2FCA-4B8A-A47C-169C2393C291
عدنان أبو عامر

كاتب وباحث فلسطيني، دكتوراة في التاريخ السياسي من جامعة دمشق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، له العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات.