تقسيم سورية

14 يوليو 2015

سياسة أميركية تؤدي إلى تقسيم سورية (يوليو /2015/getty)

+ الخط -
كثر الحديث، في الأشهر الأخيرة عن تقسيم سورية. بعض القائلين به يفعل ذلك إقراراً بأمر واقع، بعد انحسار سلطة الدولة، وسيطرة المليشيات المسلحة المتعادية على مناطق مختلفة منها. وبعضهم الآخر اعتقاداً بأن المكونات الطائفية والقومية السورية لن تستطيع أن تتعايش، بعد سنين طويلة من الحرب الدموية، وأن الاعتراف لكل منها بدويلة خاصة مستقلة، أو تابعة لفدرالية واهية، هو أقصر طريق لوضع حد للحرب، بعد أن فشلت كل الجهود السياسية في إيجاد حل يضمن بقاء الدولة السورية الراهنة، ووحدة أراضيها واستمرارها. ويريد بعض ثالث التقسيم، من باب الأمل بإنهاء سورية كقوة ومحوها من الخارطة، أو بهدف الحصول على حصة من اقتسامها. ولا يعدم هذا المشروع متحمسين سوريين، من بين النخب الجديدة الصاعدة التي تفتقر للخبرة، وتريد الوصول إلى السلطة بأي ثمن وأسرع وقت.
يفترض هذا، أولاً، أن تقسيمات الأمر الواقع الناجمة عن حرب السنوات الخمس الماضية من الحرب ليست اعتباطية خاضعة للتحول مع تغير المعطيات العسكرية، وإنما هي ترجمة لحقائق عميقة قومية أو مذهبية، وأن لسيطرة المليشيات على هذه المساحة أو تلك من سورية مشروعية: حماية أتباع أو استعادة حقوق. ومن ضمن هذا الافتراض أن "داعش" تمثل السنة مثلاً، وأن نظام الأسد يمثل العلويين، وأن حزب الاتحاد الديمقراطي يمثل الأكراد، وأن الجيش الحر يمثل المناطق التي يسيطر عليها، وأن هذه السيطرة يمكن أن تكون مستقرة ودائمة لن تتغير. وهو يفترض كذلك أن السوريين "مكونات"، أي، كما تستخدم المفردة اليوم، جمع أو حشد من جماعات أهلية، تحركها عصبية الحفاظ على هويتها الخاصة، أكثر مما تشدها قيم الوطنية والمواطنة والكرامة الفردية والحرية والإنجازات الحضارية العالمية، وأنه لا يوجد خارج هذه الأطر الأهلية سوريون متحررون من عصبياتهم، ينظرون إلى أنفسهم مواطنين، أو يطمحون إلى أن يكونوا مواطنين؛ أي أفراد مستقلون وأحرار، لهم الحق في تقرير مصيرهم من دون وصاية، وبصرف النظر عن موقف زعماء عشائرهم وقبائلهم ورجال دينهم وكنائسهم، قبل أن يكونوا سنة وشيعة ومسيحيين ومسلمين، أو يفترض ربما أن هؤلاء السوريين المواطنين المستقلين عن عصبية عشائرهم وقبائلهم ومذاهبهم لا يكونون إلا نسبة ضئيلة، لا يعتد بها، ولا ينبغي أن يحسب لها حساب. كما يفترض أن لهذه "المكونات" القومية والمذهبية قيادات مكرسة ومعروفة ومعترفاً بها، ولها أجندات موحدة، أو واحدة، تتحرك على أساسها، وأن من ضمن هذه الأجندات الانفراد بحكم ذاتها، والانفصال في شؤونها إلى هذا الحد أو ذاك عن شؤون الجماعات الأخرى.

وهذا يفترض أكثر من ذلك أن كل ما عرفه السوريون، في القرنين الماضيين، من حياة ذات سمة حديثة ووطنية، وما بذلوه من جهود للتغلب على عطالة الماضي، وتقاليد القرون الوسطى، والانغراس في ثقافة العصر وتمثل قيم الحداثة السياسية والاجتماعية وشعاراتها، من مواطنة وتفكير حر وإيمان بقيمة العلم والتقدم والسعادة الدنيوية ومواكبة الحضارة العالمية لم يكن إلا سراباً، وأن كل ما عاشوه من تجربة سياسية، منذ نشوء الدولة في العشرينيات من القرن الماضي، وما خاضوه من معارك وطنية ضد الاحتلال الأجنبي، وما نجم عن ذلك من نهضة سياسية، ومن انتشار للأحزاب والنقابات والأفكار الجديدة، وكذلك كل ما قدموه من تضحياتٍ، في صراعهم المرير والدامي ضد الديكتاتوريات، الأولى والثانية والثالثة، ثم ضد حكم عائلة الأسد الهمجي، وكل مشاركاتهم السياسية والعسكرية في قضايا العرب الكبرى الفلسطينية والقومية، وما حفلت به ثقافتهم الحديثة من إبداعات في كل العلوم والآداب والفنون، وما أنتجه كفاحهم الطويل من أفكار وأحلام وتطلعات من أجل الحرية والكرامة والمشاركة والتقدم، لم يكن سوى أوهام أو حلم صيف انقضى.
بل هو يفترض، وهذا هو الأهم، أن ثورة آذار التي جمعت السوريين بالملايين في شوارع مدن سورية وقراها، هاتفين من أجل الكرامة والحرية، بكل اللغات، ومنشدين لكل رموز الوطنية السورية، بصرف النظر عن أصولهم القومية والدينية، لم تكن سوى خداع للذات، وكذب على النفس، يخفي الحرب المقيمة والأبدية بين "المكونات" الطائفية والقومية. وأن حافز السوريين للثورة لم يكن التطلع إلى نهاية الديكتاتورية والقمع والقتل والإرهاب، وفي سبيل انتزاع حقوقهم الإنسانية، وإنما انتقام الأكثرية المذهبية من الأقليات الدينية والقومية، والقضاء على كل مختلف وغريب، لا ينسجم مع الهوية الأصلية. ويفترض، أيضاً، أن ما عرفته سورية، في السنوات الخمس الماضية، لم يكن له علاقة بأي ثورة ديمقراطية أو وطنية، وإنما كان انفجارا للحرب الأهلية الباردة المستمرة منذ عقود، بل قرون طويلة، والتي تتغذى، كما يقول أنصار الأسد، من الأحقاد والضغائن الطائفية المكبوتة من الأكثرية الخائفة على ثقافتها وهويتها التقليدية وجمودها والعاجزة عن مسايرة العصر. وهو يفترض، أخيرا، أن السوريين حمقى، وأن التاريخ عبث، وأن بشار الأسد على حق، وأنه لا علاج لتخلف السوريين، والسنة منهم خصوصاً، سوى بنصب محرقة على امتداد الأرض السورية ووضعهم فيها. وهذا هو مضمون ما يردده قادة مليشيات الأسد السوريون والإيرانيون واللبنانيون والعراقيون وأتباعهم من المثقفين الضالين، وهذا هو خطابهم اليومي العلني والمكتوب. وهذا ما يحصل بالفعل منذ سنوات خمس متتالية.

عوامل الانقسام

ليس هناك شك في أن خمس سنوات من الحرب الدموية زعزعت المجتمع السوري، ومزقت نسيجه القومي والديني، وعمقت المخاوف وعدم الثقة المتبادلة بين جميع الطوائف والجماعات، بما في ذلك داخل الطائفة والجماعة الواحدة، وليس بينها فحسب. لكن، على الرغم من ذلك، لا يحتاج الأمر إلى عبقرية خاصة، لمعرفة أن شبه "الكانتونات"، القائمة هنا وهناك بالقوة، ليست ثابتة، ولا تترجم، في معظمها، حقائق قومية أو مذهبية، بمقدار ما تعبر عن معطيات عسكرية متحولة، وأن قادة هذه المليشيات أبعد ما يكونون عن تمثيل الجماعات المنحدرين منها، وأن جميع السياسات والخطط التي طبقها النظام وطهران، لتفجير النزاعات الطائفية والإثنية وتغذية غول الإرهاب لم تجعل أغلبية السوريين يشيحون بنظرهم عن أهداف ثورتهم الحقيقية، وهي إسقاط الأسد، والخلاص من كابوس الاستبداد وجميع الاحتلالات الداخلية والخارجية التي ارتبطت به، وأصبحت جزءاً منه، وأنه حتى داخل الجماعات التي نجحت هذه المخططات في استعدائها، بعضها على بعض، ودفعها إلى التناحر، لا تزال الأمور بعيدة عن الحسم، ولا يزال هناك أغلبية ساحقة من السوريين، من كل الطوائف والقوميات، متمسكة بتراث سورية الحديثة وهويتها، وأن مطالب الدولة والحرية والكرامة التي كانت وراء ثورة آذار لا تزال محرك كفاح السوريين على اختلاف تياراتهم، حتى لدى القطاعات التي استعادت تحت النار تضامناتها الأهلية التقليدية، على حساب روح المواطنة وقيمها، وأن جلافة الأسد وحلفائه ومراهنتهم الوحيدة على العنف لم تنقذا رهاناتهم السياسية، لكنهما حكمتا عليهم بالفشل، وسوف تقودهما إلى الانتحار.
لا يعني هذا أنه لا يوجد تهديد للوحدة السورية، بل هناك عمليات عسكرية في أكثر من منطقة، لا هدف لها سوى رسم حدود الدول الجديدة التي يطمح أصحابها إلى إقامتها على أشلاء الدولة السورية. إنما ليس هؤلاء كل السوريين، ولا يمثلون بالضرورة تطلعات أغلب أفراد الجماعات التي ينحدرون منها. كما أن ذلك لا يعني أن سورية لا يمكن أن تتفجر وتنقسم، بل يكاد موضوع تقسيمها يصبح حديث الساعة في الصحافة والدبلوماسية الدولية. لكنه يعني أن سورية إذا كانت ستتقسم، فليس ذلك بسبب الحرب الأهلية التي دفعتها إليها طغمتها الحاكمة وحلفاؤها، ولا هشاشة بنيانها ونسيجها الوطني، كما هو الحال في كل البلدان الحديثة النامية، ولا نتيجة قرار أحد أمراء الحرب، مهما كانت قوته العسكرية، وإنما إذا قرر المجتمع الدولي والأطراف النافذة فيه تقسيمها. وأفضل مثال على ذلك لبنان الذي لا يزال يحافظ على وحدته الشكلية، على الرغم من 17 عاما من الحرب الأهلية.

ومن الواضح أن مثل هذا القرار لم يتخذ بعد لدى أي دولة كبرى، لكن فرضية التقسيم، باسم الفدرالية أحيانا، تزداد تواتراً في الأوساط الدبلوماسية الغربية، وتبدو وكأنها الخيار الوحيد المطروح لوقف العنف وبسط السلام والأمن، بعد خمس سنوات من القتل والاقتتال والدمار. وهي، في الواقع، ليست فرضية ولا تنطوي على أي خيار، وإنما تشكل طريقاً للهرب من استحقاق الحرية والديمقراطية والمواطنة لجميع السوريين، واستبداله بإرضاءات رمزية لتطلعات هوياتية وهمية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي خداع من المجتمع الدولي، للتغطية على فشل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتأكيد من الدول الكبرى المتنازعة على استهتارها بالمواثيق الدولية، واستعدادها الدائم للإخلال بالتزاماته، وإمعانها في إخضاع مصير سورية وشعبها لأجندة صراعات المصالح الدولية.
ليس الهدف من التقسيم، ولن يكون، كما يدعون، إرضاء جوع السوريين المفترض للهوية ما قبل الوطنية، وحل مشكلة التوترات الطائفية والقومية، بما في ذلك بالنسبة للأكراد والعلويين الذين يطرحون، من دون شك، اليوم أسئلة حقيقية على المدافعين عن مشروع بناء سورية الموحدة المقبلة، وإنما إرضاء جميع الأطراف الدولية والإقليمية على حساب السوريين جميعا، وتحويل البلاد إلى مناطق نفوذ على هذه الطوائف والقوميات نفسها، وإخضاع هوية السوريين الوطنية وهوياتهم الأهلية معا لمصالح هذه الدول الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية. وستكون في هذا التقسيم نهاية سورية، في صورتها الوطنية الجامعة والمتعددة الجديدة. وبدل أن نعمل على استعادة دولة كبيرة فاشلة، وإنقاذها سوف يترتب علينا إدارة خمس دول فاشلة ومفتقرة كل مقومات الدول الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية التي تحتاجها، لكي تتحول إلى دولة بالفعل. وفي المدى المتوسط، لن يستفيد أي طرف من هذا التهديم والإعدام السوري، لا محلياً ولا إقليمياً، بما في ذلك طهران، وإنما سيكون الرابح الأكبر داعش وأخواتها، أي روح الضغينة والحقد والانتقام والعنف والفوضى.
في المقال المقبل، سأبين أن تكاليف التقسيم، الإنسانية والسياسية والجيوسياسية، ستكون أكبر بكثير في سورية من تكاليف إعادة بنائها، حتى لو احتاج الأمر إلى تحقيق بعض التسويات، والقيام بتضحيات من أكثر من طرف، لتحقيق ذلك، وخصوصاً من الأكثرية العربية والسنية التي سيكون تقسيم سورية على حسابها، وبهدف إضعافها وتحييدها، وتهجير القسم الأكبر من أبنائها.

6D092B77-13C9-408B-B390-4D98C0529A6E
برهان غليون

أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة".