الشيخ الذي دلّني عليّ

22 مايو 2015
+ الخط -
كنت أمشي كل يوم جمعة من المخيم، لكي أؤدي صلاة الجمعة في جامع السراي الكبير في المدينة العتيقة في صيدا. كان ذلك في الستينيات من القرن الماضي، وكان المخيم يفتقد إلى الأئمة المحترفين، كما لم يكن في مخيمنا آنذاك سوى جامع الشيخ عمر الموعد في حيّ الجميزة وجامع حارة الصفصاف وجامع حارة الزيب.
لم تكن صلاة الجمعة في أيّ من هذه المساجد تلقى هوىً في نفسي، لأن خطباء الجمعة كانوا، في معظم المرات، يقرأون خطبهم المعدة مسبقاً من الورق الذي ربما كانوا اقتطعوه من دفاتر أولادهم التي كانت "أونروا" توزعها مجاناً على تلاميذ المخيم. كنت في ذلك الزمن أرى في ذلك نوعاً من النقص في الأداء الذي يفتقد إلى التأثير في المصلين، فخطبة الجمعة، كما كنت أفترض، تكون أبلغ، وآسرة حقاً حين يرتجلها الإمام بلغة عميقة ونطق سليم، وخصوصاً حين تتخللها آيات قرآنية تتلى بلا تلعثم ولا أخطاء في تشكيل الحروف، مع ذلك الالتزام الجميل بالغنة والإدغام وإخراج الحروف كلّ من مخرجه واضحاً وبهياً ومعافىً. وهذا ما كان يفتقده خطباء مساجدنا البائسة في مخيمنا المسكين. 
كان الشيخ أحمد الدومي، خطيب الجمعة في جامع السراي الكبير في صيدا، مبعوثاً من جامع الأزهر، وكنت أظنّ أنه كان ناصرياً في ذروة عهد نائب صيدا الناصريّ، معروف سعد، وإلاّ لما كانت خطبته وحضوره الطاغي يجذب إلى الجامع كل تلك الجموع من المصلين، يستمعون إلى خطبه، وكنت من بينهم، قاطعا مسافة تقدر بنحو ثلاثة كيلومترات، ماشياً على قدميّ النحيلتين، وكنت في الخامسة عشرة من عمري.
منذ صلاتي الأولى في جامع السراي الكبير وراء الشيخ أحمد الدومي، واستماعي إلى خطبه، كان صوته، نعم صوته الذي جذبني إلى الجامع، فقد كان صوتاً يحار المرء من السؤال عن مصدر سحره وانسيابه العذب إلى القلوب، وملامسته كل ما يختزنه الإنسان من مكامن العاطفة ومفاتيح اشتعالها نحو آفاق فسيحة من الطمأنينة والسلام والسكون ودعة الحلم.
لا أعتقد أن صوت هذا الشيخ ساعدني على إيماني، وإن سحرني، فقد كنت، وأنا في ذلك العمر الطريّ المبكر، لست على يقين تام من تصاعد الإيمان في قلبي، فقد كنت أحمل شكّاً يؤهلني لحمل أسئلة ثقيلة، سوف تجعلني، في نهاية تلك المرحلة من العمر، وأنا أدخل العقد الثاني، أضع أول خطواتي للخروج من باب المسجد بلا عودة. وكان الشيخ أحمد الدومي ضريراً، فارع الطول، وليده حين تصافحه بعد الصلاة نعومة يد طفل، ورقة سلام حذر، وتفحص يحمل عمقاً ودقة من يعوّض حاسة بحاسة أخرى، ولم أكن أشعر برهبة الإقدام على مصافحته مسلماً: تقبّل الله صلاتكم! كما فعلت في أول مصافحة لي يده الرقيقة. بادرني الشيخ، وقد قدّر من صوتي عمري الصغير: ما اسمك يا ابني؟ فأجبته: نصري. فقال: نصري إيه؟ فقلت: نصري حجاج. فسأل: وهل تعرف نصر بن حجاج؟ فقلت: لا والله يا فضيلة الشيخ. فتابع إنه كان من الشباب المؤمن في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، وهو من خيرة شباب الأمة.
لا أدري إذا كانت حكاية نصر بن حجاج التي أشعل بها الشيخ أحمد الدومي خيال الطفل الذي كنته هي التي قادتني إلى دروب القراءة والبحث عن اسمي في صفحات تاريخ منقرض، وجعلتني أسير في درب البحث عن دربي بعيداً، أم أن رحلتي في كل يوم جمعة ماشياً من المخيم إلى صيدا، والعودة ثانية إلى المخيم كانت السبب وراء اكتشافي عقم وعدمية تفكير الطفل الباحث عمّن يشبهه في ماضٍ سيعود من غفوته، بعد عقود من وقت سرد حكاية الشيخ، مسربلاً بالدماء والأشلاء. أخالني، اليوم، أسمع صدى صوت الشيخ في رحاب روح تهرم رويداً رويداً.
دلالات
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.