المؤرّخ حين يكذّب نفسه: بيني موريس .. نموذجاً

03 مايو 2015
+ الخط -

يتتبع المرء مسار حياة الصحافي والأكاديمي، بيني موريس، المبادر الأول إلى إطلاق اسم "المؤرخين الجدد" على مجموعة أساتذة التاريخ الإسرائيليين، الذين نشروا دراسات وأبحاثاً، تناقض الرواية الرسمية عن الصراع العربي الإسرائيلي. هو الذي أماط اللثام، في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية، عن حقيقة طرد الفلسطينيين من وطنهم بوحشية. في ذلك المسار، يتبدى بيني موريس انتهازياً بامتياز. ففي جامعة كامبريدج البريطانية التي التحق بها، لنيل درجة الدكتوراه، بعد حصوله على الإجازة في التاريخ من الجامعة العبرية؛ اختار موضوعاً يلائم الجامعة ووجهة وسطها الأكاديمي: العلاقات الإنجليزية الألمانية. عاد إلى تل أبيب، وعمل في صحيفة "جيروزاليم بوست"، ووجد فرصته لأن يكتب شيئاً مثيراً، عندما فتح الإسرائيليون أرشيف الأربعينيات للباحثين، وبدأ ينشر أوراقه الجامعية في كامبريدج، فيضع الحقائق المخالفة للرواية الصهيونية. وبسبب ذلك، نال شهرة غير مسبوقة على صعيد الأبحاث التاريخية في الكيان الصهيوني. حملت كتبه الأولى قناعات ملخصها إن المشروع الصهيوني بُني على الأكاذيب، بل إن فرضية الشعب اليهودي الذي عاش آلاف السنين ملفقة، وإن تنفيذ المخطط الصهيوني في فلسطين لم تكن تمليه الديانة اليهودية، وإن إسرائيل قامت بالتطهير العرقي والترويع وطرد السكان. وكلما تبرمت الصحافة البريطانية من تصريحاته، كان يذهب الى منابر مناوئة للصهيونية، أو إلى الصحافة الإيرلندية!

قبل إغلاق الأرشيف الصهيوني بعد فتحه؛ نشر موريس في العام 1988كتابه "ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، ليدحض الرواية الصهيونية التي تقول إن الفلسطينيين غادروا بلادهم طوعاً، استجابة لنداء الزعماء العرب، آنذاك. وحلل الباحث الذي كانه، الملتزم آنذاك بمنهج البحث العلمي؛ وثائق كثيرة رُفعت عنها السرية. ذهبت به تلك المادة إلى البرهنة على أن الصهيونية هي التي صنعت الشتات الفلسطيني. وكان في سياقه ذاك، يُقرن التحليل بالوثيقة، أو يدع الوثيقة تفضح نفسها. وقد بُنيت جميع مقارباته، على الشواهد المسجلة، فاكتسب، من خلال ذلك، سمعة حسنة تتعلق بالأمانة العلمية، وهي السمعة التي اكتسبها وحافظ عليها آخرون، من مجموعة الكتاب الإسرائيليين وأساتذة الاجتماع السياسي والتاريخ، الذين أثبتوا أن إسرائيل دولة ملفقة، قامت على أكاذيب وأساطير. وقد وصف آفي شلايم، أستاذ العلاقات الدولية اليهودي المتقاعد من جامعة إكسفورد، عمل بيني موريس عن طرد الفلسطينيين، قائلاً إن الباحث حقق بالمنهج الذي ينبغي أن يكون، بعناية وموضوعية وبلا تعاطف، وقدم إسهاماً مهماً في دراسة الخروج الجماعي الفلسطيني في 1948. وأضاف شلايم الذي يُعد من أبرز مجموعة "المؤرخين الجدد"، في معرض تعليقه ذاك، ومنتقداً تمسك اليهود بمعتقدات التاريخ القديم، إن "فكرة ولادة إسرائيل ولدت مشوبة بشائبة التعليل الضعيف، القائم بسذاجة على أن دافيد كان يقاتل جاليوت العربي. وهذه، ببساطة، من الأفكار الزائفة، التي لم يبتدعها مؤرخون، وإنما اختلقها مشاركون صهيونيون في حرب 48 رغبوا في الكتابة عن أدوارهم، من دون الاستفادة من الدخول إلى أرشيف حكومة إسرائيل الذي فُتح للمرة الأولى في أوائل الثمانينيات".

ظل بيني موريس، في أثناء عمله في صحيفة جيروزاليم بوست، يغترف من أرشيف حكومة إسرائيل، ويكتب كاشفاً حقائق صادمة لمن صدقوا الرواية الرسمية عن الصراع. وأفصح عن حقيقة أن الفلسطينيين لم يخرجوا من بلادهم طوعاً ومن تلقاء أنفسهم، وإنما كان خروجهم طرداً "وبالترويع في بعض الحالات". وفي تلك الأثناء، صعّد ممارسته لقناعاته، بالامتناع عن الخدمة في الأراضي المحتلة عام 1967 وسُجن بسبب ذلك ثلاثة أسابيع، خرج بعدها، وأطلق تسمية المؤرخين الجدد على مجموعة الأساتذة اليهود الذين يدحضون الرواية الرسمية عن الصراع، وارتحل إلى أميركا، لكن رئيس الدولة آنذاك، عزرا وايزمان، استدعاه ضامناً له منصباً أكاديميا!

كانت انتفاضة الأقصى الطويلة ذريعته لكي يتحول إلى الآراء النقيضة، ويخون قناعاته. كتب يقول إن العام 2000 نقطة التحول في وجهته، واعترف أنه لم يكن متفائلاً قبل ذلك التاريخ، على الرغم من أنه أعطى صوته الانتخابي دائماً، لحزب العمل أو لحزب ميرتس، أو لمعسكر إسرائيل اليساري "شيلي". وأضاف: "في العام 1988، رفضت الخدمة في المناطق (المحتلة)، وسُجنت بسبب ذلك، لكنني ظللت متشككاً في نيات الفلسطينيين. فبعد فشل مؤتمر كامب ديفيد للتسوية، وما أعقبه، تحولت شكوكي إلى يقين، لا سيما عندما رفض الفلسطينيون في يوليو/تموز العام 2000 مقترحات إيهود باراك، رئيس الوزراء آنذاك، ثم رفضوا مقترحات الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، أي إنهم رفضوا حل الدولتين. فهؤلاء يريدون كل البلاد، اللد وعكا ويافا"

في سياقه الجديد، وهو الذي صنّف نفسه مؤرخاً جديداً، عاد بيني موريس إلى جذر المزاعم الصهيونية، ليقول في العام 2004: "لم تكن دولة إسرائيل ستقوم، بدون اقتلاع 700 ألف فلسطيني. كان اقتلاعهم ضرورة قصوى. لم يكن ثمة خيار سوى طرد السكان. كان لازماً تطهير أرض الميعاد، وتطهير المناطق الحدودية والطرق الرئيسة. وكان من الضرورة بمكان تطهير القرى، وتمهيد الأرض لقيام مستوطناتنا".

في هذا التحول، من وصف عمليات الطرد بالقتل والترويع، إلى وصفها باعتبارها تطهيراً ضرورياً لا خيار سواه، ينقلب المؤرخ على أمانته العلمية في مرحلة الصعود الأكاديمي، فيطيحها ويجعلها شهادة مكتوبة في خزانة المتطرف الأصولي اليهودي، ويخون يساريته التي تشدق بها طويلاً.

في كتابه الجديد، المنقلب على كتابه الأول، ينتقل بيني موريس من الاستفاضة في موضوع الطرد الوحشي للفلسطينيين من وطنهم، إلى مقاربة وإسهام في تعزيز الرواية الرسمية عن الحرب نفسها. عنوان كتابه "1948.. تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية"، فبدا عبر الصفحات، حكواتياً جيداً ذا لغة رشيقة، كما يوصف. يعرض في كتابه ما سماها "الحقوق اليهودية التاريخية"، ويقدم الصهيونية باعتبارها حركة قومية ضمن النسق العام لظهور القوميات الأوروبية. ويغالط في الحقائق التاريخية، زاعماً أن اليهود حكموا أرض فلسطين ثلاثة عشر قرناً، بينما في كتابات اليهود أنفسهم تقول الحقيقة إنهم لم يحكموا سوى جزء من فلسطين، أقل من قرن. ويكذّب نفسه بقول نقيض ما قاله في دراساته العلمية: "العرب هم من بدأوا الحرب"، ويقلل من شأن المذابح، مثل دير ياسين التي "ضخّمتها دعاية العرب"، حسب ما يزعم. ويقسّم موريس، في كتابه، حرب 1948 إلى مرحلتين، واحدة يسميها اعتباطاً "الحرب الأهلية"، وكأن العصابات الفلسطينية كانت من الأهل أو من شعب الأرض، وكأن الصراع كان أهلياً. أما الثانية فيسميها "الحرب مع الجيوش العربية". ويقدم الزعامات الفلسطينية على أنها "معادية للسامية" ومشبعة بثقافة إسلامية "تكره اليهود"، ويبرر جرائم العصابات الصهيونية التي بادرت إلى استخدام تقنية التفجيرات والإرهاب. وفي الواقع، كان بيني موريس، في كتابه الجديد، يقدم نفسه على حقيقتها، أنموذجاً للمؤرخ، عندما يكّذب نفسه، ويخون المنهج العلمي الذي رفعه إلى سوية الباحثين.