الدولة الكردية المستحيلة

18 فبراير 2015
+ الخط -

لا تتوقف فئة من الأكراد الانفصاليين في سورية عن طرح مشاريع الانقسام والحديث عنها، كان آخرها ما نشره السياسي الكردي، نوري بريمو، والذي قال إنها خريطة لما يدعوها "كردستان الغربية"، ودستورٌ لها. الخريطة تشمل الشريط الحدودي الشمالي بين سورية وتركيا بأكمله، تبدأ من الشرق من محافظة الحسكة، وثم محافظة الرقة، ثم ريف حلب الشمالي "وتلتف الخريطة حول عاصمة الشمال بدون أن تشملها"، ثم ريف إدلب، حتى تشمل لواء الإسكندرون. وبغض النظر عن مدى سذاجة مثل هذا الطرح الذي يدل على ضيق أفق ومحدودية رؤية، فإن المنطق يقول إن مصير المشاريع الانفصالية الكردية في سورية الفشل الذريع بلا شك، ولا يمكن أن يتم انفصال حقيقي للأكراد في الأراضي السورية، لعدة أسباب، أهمها:

أولاً، تعددية العرقيات والأديان في المناطق التي يطلق عليها الأكراد الانفصاليون، اليوم، "كردستان الغربية"، أي الأراضي السورية التي يريد الأكراد الانفصاليون اقتطاعها، حيث أن نسبة الأكراد في تلك المناطق لا تشكل غالبية عظمى "كحال كردستان العراق"، ما سيجعل هذا الكيان الهزيل دولة أقليات بامتياز، وهو ما سيعني عدم استقرار أكيد، ففي هذه المنطقة، هناك نسبة كبيرة جداً من العرب، ونسبة من الآشوريين الذين يحاول الأكراد الانفصاليون الإيحاء بأنهم يقفون مع الأكراد، في قرارهم الانفصالي "مع عدم وجود قوة سياسية جامعة تمثل الآشور"، وتوجد نسبة أيضاً من التركمان، وهم في الغالب يرفضون الانفصال الكردي رفضاً قاطعاً، كما يشكل الأرمن نسبة لا بأس بها كذلك، ويقفون ضد الانفصال في المجمل. هذا من ناحية عرقية، ومن الناحية الدينية، المسلمون السنة غالبية في هذه المناطق، كما توجد كذلك نسبة كبيرة من المسيحيين.

ثانياً، تداخل المناطق التي تقطنها هذه العرقيات وتشابكها، فتجد القرية الكردية تحيطها قرى عربية، والقرية العربية تحيطها قرى كردية، وهكذا. نتج هذا عن قانون الإصلاح الزراعي الذي طبقته الحكومات السورية، بعد الاستقلال، والذي كان يهدف، حقيقةً، إلى إدماج الأعراق المختلفة في هذه المناطق مع بعضها، لتقليل احتمالية قيام تمرد في هذه المناطق البعيدة عن سيطرة العاصمة دمشق. تداخل هذه المناطق التي تقطنها الأعراق المختلفة سيصعب كثيراً من عملية الانفصال هذه، حيث أن بقية الأعراق ستكون بالتأكيد رافضة لمشروع الانفصال الكردي، أو أن كل عرقية حينها ستسعى لانفصالها الذاتي وهذا مما يستحيل، إذن فعملية توحيد هذه المناطق في كيان سياسي واحد صعبة جداً بل ربما مستحيلة.
ثالثاً، ليس الأكراد فئةً واحدةً في سورية، فهناك عدة فئات منهم، ولا يجمع الجميع على رأي واحد بقضية الانفصال، أما أهم الفئات الكردية الموجودة في سورية، فهي:
١-أكراد المدن الداخلية: كأكراد دمشق وحلب وحماة واللاذقية وغيرها، وهذه الفئة اختلطت بالعرب القاطنين في هذه المدن، واندمجت معهم، منذ فترات طويلة جداً، إلى درجة نسي فيها كثيرون منهم عرقهم الكردي، ولغتهم الكردية، أصلاً، وهذه الفئة من الأكراد موجودة في كل المدن الكبرى تقريباً، ومنهم عائلات كبيرة ومشهورة على المستوى السوري: كالبوطي والشيشكلي والزعيم وغيرهم.
٢-أكراد جبال اللاذقية: وهؤلاء فئة مختلفة من الأكراد استقروا في قرى جبال اللاذقية منذ الحروب الصليبية، ويعود استقرارهم في هذه الجبال لعهد القائد الإسلامي ذي الأصول الكردية: صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
٣- أكراد المناطق الريفية منذ ما قبل قيام الدولة السورية الحديثة 1920: وهؤلاء فئة خاصة من الأكراد، نزحت إلى الأراضي السورية من موطن الأكراد الأصلي في شمال غرب إيران منذ فترة طويلة، تقدر بعدة مئات من السنين، ومع عدم وجود تقديرات حقيقية لتاريخ نزوح هذه القبائل. ولكن، يعتقد أنها تزامنت مع نزوح الترك من موطنهم الأصلي في آسيا الصغرى، نحو الأناضول، أي أن ذلك حدث تقريباً في أواخر العصر العباسي (القرن الرابع والخامس الهجري أو العاشر والحادي عشر الميلادي)، وهذه الفئة من الأكراد ما زالت تحافظ على لغتها وثقافتها وتقاليدها "ما زالوا يحتفلون بعيد النوروز على عكس الفئتين السابقتين".
٤- أكراد المناطق الريفية، ما بعد قيام الدولة السورية الحديثة 1920: وهذه الفئة الأخيرة أكثر فئة تعرضت للتهميش من بين كل الفئات السابقة، فلقد كانت تقطن، في بدايات القرن العشرين، في الأراضي التركية، قبل تنفيذ اتفاقية "سايكس-بيكو" وتقسيم المنطقة، وحين قيام الدولة التركية الحديثة على يد أتاتورك، وسيطرة القومية التركية والدعوة لها تمّت محاربة الأكراد في الجنوب التركي، وتم التسويق على أنهم لا يستحقون الجنسية التركية، ونظراً لكثرة المضايقات والاعتقالات والإساءة إليهم، اضطر كثيرون منهم لمغادرة تركيا، واللجوء لسورية الناشئة حديثاً، والتي استطاعوا المعيشة فيها من دون مضايقات، ولكن، مع حالة عدم الاستقرار السياسي التي كانت تعيشها سورية، ما بعد الجلاء 1946، والتي استمرت حتى 1970، وتعاقب الحكومات الكثيرة ذات التوجهات المختلفة، تم هضم حقوق هذه الفئة، ونسيان قضيتها، جعلهم يفقدون حق المواطنة السورية، على عكس باقي الثلاث فئات التي تملك مواطنة سورية كاملة، منذ قيام الدولة السورية عام 1920. ثم في عام 2011، حصلت هذه الفئة على حقوق المواطنة بمرسوم رئاسي، أقرّه بشار الأسد، والذي اعتبره من ضمن الإصلاحات السياسية في البلاد، ما زالت هذه الفئة تحافظ كذلك على لغتها وثقافتها وتقاليدها "ما زالوا يحتفلون أيضاً بعيد النوروز".
بمراجعة كل الفئات الأربع، فإن فئتَي (أكراد المدن الداخلية وأكراد جبال اللاذقية) في المجمل من الرافضين فكرة تشكيل دويلة كردية في الأراضي السورية، بينما الفئتان الأخيرتان (أكراد المناطق الريفية في الشمال والشرق قبل وبعد تشكيل الدولة السورية) في المجمل من مؤيدي فكرة تشكيل دويلة كردية في الأراضي السورية، ويعود ذلك إلى التهميش الذي عاشته الفئتان الأخيرتان، خصوصاً من الحكومات السورية المتعاقبة.

avata
avata
إبراهيم عبه جي (سورية)
إبراهيم عبه جي (سورية)