حقيقة الطائفية في الصراعات العربية

22 يوليو 2014

عراقيون يتظاهرون ضد الطائفية في بعقوبة (نوفمبر/2005/فرانس برس)

+ الخط -

لم تكن قضية الطائفية حاضرةً في السياسة والثقافة العربيتين في أي فترة كما هي اليوم. وما يثير التساؤل حول هذا الحضور أنه يأتي بعد ما يقارب القرن من تأكيد عهد الوطنية، ورفض جميع أشكال الانتماءات الطائفية والقبلية، وتلاشي مظاهرها، المعلنة على الأقل، إلى حد كبير. الكثير من المثقفين والاعلاميين وصناع الرأي يبدون وكأنهم يكتشفون، لأول مرة، قوة هذه الانتماءات، ويدعون إلى مراجعة الطروحات القومية والوطنية التي ساعدت على تجاهلها، أو إنكارها، ويعتقدون أن الاعتراف بها وإعطاءها "حقوقها"، والكف عن إنكارها، هو الطريق الوحيدة لمعالجة آثارها، وإنقاذ رهان الدولة والحداثة الوطنية، وهناك من يذهب إلى أكثر من ذلك، ويعتبر أن الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية بينت أنه لا يوجد على الأرض إلا الطوائف، وأن الخاسر الأكبر في هذا الصراع هو الجماعات التي لم تعرف كيف تنظم نفسها، وتقاتل على أجندة طائفية، مثلها مثل الآخرين، وكانت كالزوج المخدوع. وهذا يفسر، أيضاً، جزءاً من صعود الحركات الجهادية السنية التي تتبنى، بصراحة، خطابا وأجندة طائفيين. ويعتقد الجميع أن ذلك  كله ينذر بحرب طائفية داخلية وإقليمية، لن تبقي شيئا من أي ماض وطني، أو حداثةٍ، أو مشاريع ديمقراطية، أو قضايا وحقوق إنسانية.
وعلى العموم، يسود الاعتقاد، اليوم، أن الطائفية حقيقة قوية، أخطأنا في تقدير حيويتها وتأثيرها، وأنه لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة في المشرق العربي، إلا على أساس

احترام هذه الحقائق، والتكيف معها، ما يعني ربما التضحية بفكرة الدولة الوطنية الواحدة التي تساوي بين جميع أفرادها، بصرف النظر عن انتماءاتهم وأصولهم، والقبول بصيغة من صيغ الفيدرالية، أو حتى الكونفدرالية التي تعطي لكل طائفة سلطة ذاتية كاملة في شؤونها، وربما دولة مستقلة.

ويشارك العديد من الباحثين والصحفيين الغربيين الذين لم يقتنعوا يوماً بمقدرة المجتمعات العربية على ولوج نظم الحداثة، والنجاح في بناء مؤسساتها في هذا التصور، ويشجعون عليه، مؤكدين صحة تحليلاتهم السابقة التي كانت تشكك في وجود نسيج أمة في البلاد العربية، وتركز أكثر على المكونات الإثنية والمذهبية والقبلية فيها. وفي هذا السياق، زاد تداول الخرائط الجديدة التي تنشرها صحف غربية لإعادة رسم حدود دول المنطقة، بما يحقق التطابق أكثر بين الدولة والطائفة. ولا يبدو أن مثل هذه المشاريع تثير الكثير من الاستياء والاعتراض من أحد. وفي جحيم الحروب الدموية التي يعيش فيها المشرق، يمكن للناس القبول بكل الاقتراحات والأفكار التي تعطيهم بعض الأمل بالخلاص.
العصبيات والولاءات
أولاً، لا أعتقد أن العصبيات الطائفية والقبلية، القائمة على ولاءات ميكانيكية قوية وتلقائية، لا تزال موجودة في المجتمعات العربية، أو على الأقل على نطاق واسع ومؤثر. ولا أنها كانت تعيش تحت الأرض الوطنية، واستيقظت على غفلةٍ منا، ودمرت إنجازاتنا الحديثة. بالعكس، أعتقد أن هذه الطوائف تفككت وانحلت كعصبيات، حتى لو بقيت منها بعض الروابط المحيلة إلى المخيلة، أكثر منها إلى ترابط مصالح حقيقية. ولم تعد الطائفة، مهما بلغ تنظيمها الداخلي قادرة على تأمين مطالب الوجود والحياة الضرورية للفرد، وأولها المرجعية الفكرية والأخلاقية والمكانة السياسية والحماية والأمن والقانون والعمل والتعليم والتطبيب، وغيرها. بل إن كل ما بقي من مظاهر التضامن الداخلي بين أفرادها يعود إلى النجاح في تأسيس صندوق للمساعدات الإنسانية، أو بسبب ارتباطها الخارجي الذي يضمن لها بعض الدعم، وفي حالات قصوى، كما هو الأمر في لبنان، بسبب توظيفها بشكل سافر في استراتيجيات خارجية، وتحويلها إلى أداة من أدوات الصراع على السيطرة داخل البلد الأصلي، أو خارجه. لكن، حتى في هذه الحالة، لم يعد الأمر يتعلق بتضامن طائفي عفوي وموروث، أي بعصبية طبيعية، ولكن، بعمل منظم تقوم به نخبة، ليست حتى بالضرورة دينية، أو ذات صفة زعامية، وبالتنسيق مع الدول الخارجية، لإحداث انقلاب داخل الطائفة على السلطات التقليدية، وانتزاع القيادة منها، وفرض أجندة النخبة الانقلابية الجديدة عليها. أكبر مثال على ذلك حزب الله في لبنان، لكن ليس وحده. وهذا يعني، في نظري، أنه لم تعد الطائفة واحدة، وإنما أصبحت كل منها طوائف متعددة، حتى حين لا تنقسم الزعامة الدينية.

وثانيا، لا أعتقد أن وجود هذه  العصبيات الطائفية، واستمرارها في العمل من تحت، حتى لو تم البرهان عليه، هو الذي يفسر ما تعيشه الدولة الوطنية العربية، اليوم، من أزمات، وما تواجهه من مصاعب، وأن إرضاء مطالبها، وتطمينها على وجودها واستقرارها يمكن أن يفيد في شيء ويخرجنا من الحرب الطاحنة الخفية والعلنية التي نوشك أن نستوطن فيها. كما لا أعتقد أن هناك تناقضاً أو تعارضاً حتمياً بين استمرار التضامنات الأهلية، وقيام الدولة

الوطنية. وأكبر دليل على ذلك أن هذه الجماعات الأهلية لم تقف ضد نشوء الدولة الوطنية الحديثة، عندما بدأت النخب المتعلمة الحديثة تسعى إليها، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في المشرق العربي، لكنها شجعتها. على الرغم من أنها كانت لا تزال تتمتع بقوة ونفوذ لا يمكن التشكيك بهما. وفي سورية، كان لوجهاء الطوائف والقوميات الدور الأكبر في تعويم مشروع الدولة الوطنية الواحدة، وحمايتها والدفاع عنها.
والدليل الثاني الأهم أننا سنتعب كثيراً، اليوم، إذا فكرنا، كما كان يحصل منذ قرن، في جمع وجهاء الطوائف والعشائر، من أجل إيجاد مخرج للحرب، أو تسوية للنزاع. والسبب أننا لن نعرفهم، ولن نجدهم، وإذا وجدنا بعض آثارهم، سندرك، بسرعة، إنهم لا موقع ولا تأثير ولا نفوذ لهم، وغير قادرين على الحل والربط في أي قرار. ويكفي أن ننظر إلى من يتحدث باسم الطوائف اليوم: الأسد والمالكي وأضرابهما وأعوانهما من الضباط ورجال المال والأعمال الفاسدين والأمنيين والمخبرين، أولئك الذين عملوا من قبل، هم وآباؤهم وأنصارهم، على تقويض سلطة وجهاء الطوائف وتدميرها.

على العكس تماماً، أعتقد أن ما نشهده من نزاعات وفوضى، لا ينتج عن انبعاث العصبيات الطائفية، ولا يبرهن على وجودها، لكنه ثمرة انحلالها، وتفجر نواتها، وتحولها إلى ركام وأشلاء. ولأننا، في سياق الدولة الوطنية التي أقمناها، لم ننجح في لم هذه الأشلاء وإعادة تركيبها، بما يحولها إلى عناصر في جسم وطني فاعل، ويمدها بذاكرةٍ مغايرةٍ وتاريخ جديد، أصبحنا، كما نحن الآن، ضحاياها. ما نعيشه، اليوم، هو ثمار الفوضى المزدوجة التي تسببنا فيها نحن، النخب الحديثة، اللاطائفية والمعادية للولاءات العصبية: الفوضى الناجمة عن تحلل الطائفة والقبيلة، وتلك النابعة من تقويض مشروع الدولة الوطنية، وتفريغه من محتواه، وما تنتجه كل يوم من حروب ونزاعاتٍ، تدفع إليها هذه الأشلاء المنفصلة عن حواملها

والمتناثرة في كل الأرجاء، والتي لم يعد سلوكها يعتمد على أي مرشد أو دليل، لا ذاك الموروث عن تقاليد وقيم القبيلة والطائفة، ولا المرشد المستمد من دليل المواطنة للحقوق والواجبات. هكذا صار كل شيء ممكناً، وكل شيء مباحاً. هذا هو، أيضاً، موقع بشار الأسد وجماعته والمالكي وأزلامهما. هؤلاء يمكن أن يكونوا أي شيء،  ما عدا أن يكونوا زعماء عشائر وطوائف أو قادة وطنيين، أو رؤساء دول، يعرفون واجباتهم وحقوقهم، ويلتزمون بها. إن من يراقب سلوكهم وأخلاقياتهم والأفكار والمشاريع التي تحركهم، وتوجه أفعالهم، يدرك تماما أنها لا تختلف عن التي كانت توجه، في قرون سابقة بعيدة، الجماعات الشاردة المنفلتة من مجتمعاتها، من قراصنةٍ وأفاقين وقطاع طرق ومغامرين وغزاة همجيين.
تجيير الطائفية
ولأنه لم يعد هناك طوائف وعصبيات فاعلة، تحمي الفرد وتساعده على تنظيم شؤونه، وحل مشكلاته في المجتمع، أي لم يعد هناك، أيضاً، وجهاء طوائف نافذين ومتحكمين بطوائفهم، صار من الممكن بسهولة تجيير الطائفية، وتجييشها في كل المعارك السياسية، وغير السياسية، من كل من يملك المال والدعم، وأفضل من ذلك من يملك الحماية الخارجية. ولأن الطوائف تحللت، كتشكيلات فاعلة ومستقلة، أو شبه مستقلة، وولدت جيوشاً من الفاقدين للانتماء، زاد بما لا يقاس الطلب على الدولة والصراع من أجل النفوذ إليها، والارتباط بها. وصار من الممكن أكثر، في حال انعدام قدرة الدولة على تلبية طلبات الولاء والانتماء، أي الاعتراف بعضوية الأفراد، ومواطنيتهم، أي نسبهم المواطني، صار ممكناً لكل صاحب غاية، أو مشروع خاص أن يشتري ولاءات كثيرة، وبسهولة، أي صار ممكناً ظهور مافيات المال والسلاح، وإعادة بناء القلاع والقصورالإقطاعية، وإحياء منظومات أسياد الأرض، والأسياد عموماً والأقنان. وبالمثل، لأنه لم يعد هناك قاعدة ولا منظومة قيم، ولا مبادئ، تحكم عمل هذه الشظايا والأشلاء الشاردة في الفضاء الاجتماعي، صارت الحرب من دون مرجع، ولا قانون. ولم يعد العطش للانتقام أو الرد على تحدي المعارضة والمقاومة الأهلية يكتفي بأقل من تحويل المجتمعات نفسها إلى أشلاء.
والنتيجة، ليست الطائفية المكبوتة، أو المتجاهلة هي التي دفعت إلى الحرب الوحشية التي يعيشها المشرق، اليوم، وإنما بالعكس تماماً، الحرب والصراع على السلطة، وإرادة السيطرة للدول، هي التي بعثت الطائفية، وأعادت تركيبها، لكن، في شكل قوى ملحقة وحليفة، مقاتلة ومندمجة في مشاريع سياسية وإقليمية، ومشاركة فيها، لا يهمها لا مذهب الطائفة، ولا حياة أبنائها ولا مصيرهم. والواقع أن تراث الطوائف كلها أصبح، اليوم، بما في ذلك الاسم، مخطوفا من نشطاء، يعملون في إطار مشاريع سياسية خاصة. ولا تعدو الطائفية السائدة اليوم سوى شعارات وجمل تستخدم لتعزيز آلة الدعاية والحرب النفسية التي تخوضها الأطراف السياسية. ولو نظرنا في الظاهرة عن قرب، لاكتشفنا أن ما تسمى المشاريع الطائفية ليس لها أي مقوم داخلي، وكلها مشاريع مرتبطة بقوى أجنبية. وهذه الطائفية المخطوفة والمجيرة لحسابات سياسية واستراتيجية محض هي التي تهدد تراث الطائفية الاجتماعي، الذي يجسده التضامن الأخوي، والاعتزاز الفطري والطبيعي عند كل فرد بانتمائه الديني، أو المذهبي أو القومي أو العائلي. وهذا من معالم الكرامة الشخصية، ولا يربطه شيء بالطائفية التي تعمل أداة للسيطرة الداخلية، أو الخارجية، والتي تضع الانتماءات الجزئية في مواجهة قيم التضامن والتعاون والتكافل الإنسانية التي لا تستطيع أن تعمل وتزدهر، اليوم، إلا في إطار دولة وطنية مدنية، يحكمها القانون الذي يساوي، أيضاً، بين جميع أعضائها، ويضمن لهم جميعاً، من الحرية والكرامة والحماية وروح التكافل والتضامن، ما حرموا منه للأبد بزوال الحاضنة الاهلية "الطبيعية.
 
من المسؤول عن إجهاض الدولة الوطنية؟ هذا ما سنجيب عليه في المقال القادم

6D092B77-13C9-408B-B390-4D98C0529A6E
برهان غليون

أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة".