جيش من التماثيل

17 نوفمبر 2014

هنري مور يتحسس إحدى منحوتاته في بريطانيا (إبريل/1973/Getty)

+ الخط -

هناك أكثر من عمل لهنري مور منصوب في لندن. لست أعرف، بالضبط، كم عددها، لكنها ليست أقل من عشرة أعمال معروضة في الفضاء العام: حدائق، مبانٍ، مداخل مؤسسات، إلى غير ذلك. فنحّات بريطانيا الأكبر في القرن العشرين ليس من الذين يصنعون أعمالاً يسهل "احتواؤها" بسهولة. إنَّه لا يشبه جياكوميتي الذي تناولته، هنا، الأسبوع الماضي، من باب خبرٍ عن بيع تمثال له بأكثر من مائة مليون دولار، وقادني إلى "نقيضه" الفنيّ هذا الأسبوع، بل هو، على الأرجح، عكسه. أعمال هنري مور، رفيق جياكوميتي في الحركة السوريالية (وهذا أمر عجيب من إنكليزي، لكنه قد لا يكون عجيباً من إنكليزي ذي أصل إيرلندي مثل مور)، وجِدَتْ لتكون عرضة لكل ما يتعرض له السابلة: المطر، الريح، سيل العربات وعوادمها، الشمس التي قليلاً ما تتمكن من قهر السماء المدرَّعة بالرماد، وربما العزلة الداخلية الصلبة للذين يمشون مع الجميع وخطاهم "وحدهم"، على حسب تعبير لسعدي يوسف. ليس التمثال، أصلاً، ابن المتحف.
ليس ابن الجدران الأربعة، بل ابن الفضاء الخارجي، ابن العُري، إنه أكثر من مجرد عمل فني، أو نصب جامد، ولا هو محاكاة. ولعله لا يزال يحتفظ بتلك المنطقة الغامضة التي جعلت منه، في الماضي، إلهاً يُعبد. لذلك، ربما، تجد لتماثيل الطغاة رهبةً في الشارع، معادلةً لرهبة وجودهم الحقيقي. ألم تكن بدايات الثورة السورية موجهةً ضد تماثيل حافظ أسد وأولاده، باعتبار كسرها، تحطيمها، كسراً وتحطيماً للاستبداد الذي تمثله العائلة السورية المالكة. كأنَّ التمثال امتداد للخامةِ نفسها التي قُدَّ منها المثال نفسه.. وقد لا أنسى، قط، مصنع تماثيل صدّام حسين الذي كان بصدد إنتاج سلالة جديدة من التماثيل، لتحلّ محل التماثيل القديمة التي لم تعد تخدم الهدف، وهذه إضافة، من فنّاني صدّام، إلى فكرة التمثال وعلاقته بالزمن. فالتمثال، في عرف هذه النظرة، يعبّر عن حياة متغيرة، متواصلة، ومتجددة، مثل حياة القائد، وليس تجميداً للحظة قد يكون طواها الزمن المتجدّد للملهم. وقد تكون، وهذا أخطر، لمنع وقوع الألفة التي تجعل، حتى الرعب، أمراً عادياً يمكن التكيّف معه.
هناك شعب من التماثيل، يمشي في شوارع لندن. لا أقصد الحط أو الإهانة، ولا حتى السرنمة التي تميز طوابير الموظفين الذين يخرجون من أنفاق القطارات الأرضية صباحاً، أو الذين يعبرون التيمز، من ضفة إلى أخرى، إلى قلاع المال (إليوت)، بل أقصد التكوينات النحتية لهؤلاء الناس: الحجم، الكتلة، الخطوط، النسب. إنهم في حالة حركةٍ، لا يعيقها وطء (وضغط) الحجم مهما عَظُم. لكنني نادراً ما شعرت أن أعمال هنري مور التي تعبرها الجموع تختزن شيئاً من هذه الطاقة: الحركة. إنها ضخمة، ولكنها رشيقة منحوتة ببراعة. مضطجعة، بأريحية، على قواعد راسخة. تعطي إحساساً، على الرغم من ضخامة حجم بعضها، بالأنوثة، فموديله الأفضل، للحياة، هو المرأة. ولاحقاً العائلة التي تصنعها المرأة، حتى إنه كاد أن يعزو الأمر إلى "عقدة الأم" عنده! لا يلحظ مشاهد أعماله صراعاً عنيفاً مع الكتلة التي تبدو مطاوعة بين يديه. لا قلق يجتاح أعماقها. وعلى الرغم من ضخامة بعضها، فإن كل شيء فيها يتراءى منساباً ومنسجماً. على عكس رفيقه في الحركة السوريالية، ألبرتو جياكوميتي، لم تشذّ أعمال هنري مور عمّا كانت عليه التماثيل مذ وجدت: أن تعرض في الخارج. هذه هي فكرة التمثال. أن يُرى في مكان عام. أن تكون له "رسالة". جياكوميتي فعل العكس تماماً: جعل "تماثيله" حبيسة الغرف. كأنها تريد أن تختبىء، أو تختفي من فرط نحولها، ما جعل هنري مور يتساءل بشيء من الصدق الساذج: ألا تكبر أعمال جياكوميتي أبداً؟

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن