عشت في تونس

31 أكتوبر 2014

مشهد في وسط المدينة القديمة في تونس العاصمة (أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
عشرون عاماً في بلد ما كافية لتجعلك تحسّ أنك مواطن فيه، ولو لم تحصل على جنسيته، فأنت تعيش تفاصيل حياة المواطن الاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية. تأكل ما يأكل، وتلبس مما هو متوفر في أسواقه، ويلفحك وهج شمسه، وتتنفس هواءه، وتشم رائحة ياسمينه، ومسك الليل في حدائق بيوته.
عشت في تونس عشرين عاماً، حتى كدت، أحياناً، أفقد لهجتي الفلسطينية، والتبست هويتي على بعضهم. وصلت إلى تونس بعد ثلاثة شهور من انقلاب الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987. وغادرتها في نهاية يناير/كانون الثاني 2008. وفي عشرين عاماً، عرفت التونسيين، وكوّنت أصدقاء من مختلف الأطياف والطبقات.
كان الفلسطينيون في دوائر منظمة التحرير الفلسطينية، في تونس، يعيشون في ما يمكن أن أسميه "غيتو" فلسطينياً في أحياء معينة، تضم مكاتب المنظمة. لكنني آثرت أن أسكن في الضاحية الشمالية لتونس، في الكرم وسيدي بو سعيد، تسعة عشر عاماً من إقامتي هناك، وأقمت علاقات مع تونسيين، سمحت لي أن أتعرف إلى ما يفكرون ويحسون به في الواقع السياسي والاجتماعي.
عاش التونسيون في أثناء حكم نظام بن علي حالة من الخوف والرعب، فقد كان النظام أمنياً بامتياز، وإن حاول، في بداية حكمه، الانفتاح على القوى السياسية المعارضة للنظام السابق. فأعطى لجماعة الإخوان المسلمين الفرصة للحراك العلني، وسمح لهم بجريدة أسبوعية. كما استطاع أن يستوعب مثقفين وسياسيين كثيرين من اليسار ضمن وظائف الحكومة. لكن، لم يدم الانفتاح طويلاً، فسرعان ما قام باعتقالات في صفوف الإسلاميين واليسار، مما أدى إلى هروب معظم قيادات الإسلاميين إلى الخارج، ومنهم راشد الغنوشي.
كنت أعيش هذه الوقائع، وكنت أستمع إلى نقاشات سياسية في أوساط التونسيين، لكن، بصعوبة كبيرة، فقد كان التونسيون يهمسون رعباً حين يتحدثون في السياسة، ولا يرفعون أصواتهم.
كان شرطي المرور يسمى الحاكم، وقد صدمتني هذه التسمية، لأنني جئت من تجربةٍ، لا يقيم الناس فيها أية أهمية لشرطي السير، أما أن يسمى حاكماً، فكان ذلك مؤشراً إلى رعبٍ يمثله رجال الأمن في تونس.
كنت أسمع كثيراً من الناس عن قصص الاعتقالات والقتل في السجون، وقادتني المصادفة، في منتصف التسعينيات، إلى ضاحية الكرم الغربي، الفقيرة والمهمشة في العاصمة، وهالني عدد أفراد قوات الأمن الخاصة، وهم يضعون تابوتاً في سيارتهم ويحيطون بها، ويمنع نفرٌ منهم نسوة منتحبات من الاقتراب من السيارة التي انطلقت بعيداً. وعندما سألت عن سرِّ هذه الحكاية، أعلمتني سيدة من السكان أن التابوت يحتوي جثمان معتقل سياسي قُتل في السجن، وأحضره الأمن، لكي يلقي ذووه عليه النظرة الأخيرة قبل دفنه، بعيداً عن أهله الذين مُنعوا من إقامة المأتم.
كان التونسيون، في السنوات السابقة للثورة، متعطشين للحرية والتخلص من الحكم البوليسي. يبدو ذلك في الأصوات، التي بدأت تعلو حول الفساد والقهر والإفقار. وربما كان رحيل الزعيم، الحبيب بورقيبة، في 6 أبريل/نيسان 2000، وتدفق جماهير المشيعين من المدن والقرى والمحافظات كافة نحو المستنير، مدينة بورقيبة ومرقده، دليلاً ساطعاً على رفض الشعب التونسي حكم بن علي.
أرعبت حشود المشيعين، وخصوصاً الشباب الذين لم يعاصروا الزمن البورقيبي، النظام، مما جعله يمنع تغطية الجنازة إعلامياً. كانت الجنازة تصويتاً عفوياً على رفض النظام، وليس بالضرورة حنيناً إلى العهد السابق.
غادرت تونس عام 2008، وكنت أشعر أنها تختزن زلزالاً قد ينفجر قريباً، فالتوق إلى الحرية كان حاراً في نفوس التونسيين، الذين يستحقون حريتهم. وللمصادفة التاريخية، سمعت أخبار الثورة التونسية، وأنا بصحبة صديقين تونسيين في دمشق.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.