لندن بالعربية

13 أكتوبر 2014

حافلات في لندن (Getty)

+ الخط -

يعشق زوار لندن رحلات قطار الانفاق، يروون في التنقل عبر جوف الأرض مغامرة غير متاحة، خصوصاً في بلادٍ تسمع بقطارات الأنفاق، كما أسمع أنا بمركبات الفضاء. أما سكان المدينة، فأكثر ما يكرهون رحلة الصباح والمساء في عربات "الأندرجراوند" التي تذكّر بيوم الحشر. .. مثل النمل، يركض موظفو المدينة، وطلابها، نحو مكاتبهم وجامعاتهم، مع الخيوط الأولى للنهار، ثم يرجعون ليلاً، وقد غلبهم التعب والنعاس وضجيج" الأندرجراوند" وركابه.
أشتاق أياماً التعرف على لندن ما فوق سطح الأرض، أحاول أحياناً كسر الروتين اليومي، والتنقل في الحافلة، لأن الحافلة تتيح نافذةً للفرجة على الشوارع والوجوه العابرة لها.
بدأت رحلة الحافلة رقم (10) من "ماربل أرش"، وسط لندن، باتجاه "همرسميث" غرباً، جلست في الطابق العلوي، أخذت أتأمل وجوهاً بيضاء وسمراء وحمراء وصفراء. وجوه تعبر جانبي "أكسفورد ستريت" و"بارك لين" في كل الاتجاهات، سياح وفدوا من بقاع الأرض، وتجمعوا في كرنفال عفوي، بلا أقنعة ولا طبول، يتخللهم موظفون، يبحثون عن فنجان قهوة، أو سندويشةٍ تعينهم على نهار عمل طويل.
عندما وصلت الحافلة رقم (10) إلى محطة "هايد بارك كورنر"، صعد راكب ورفيقته، وجلسا في المقعد الأمامي. لم أكن أعرفهما. أخذ الحديث يتدفق بينهما بلهجة عربية صافية، أفهم كل حروفها وتعبيرها. طاف حديثهما من رحلة التسوق وحتى علاقتهما الخاصة، كانا مستغرقين في الحديث، وكأنهما يجلسان في غرفة مغلقة، مفترضين أن لا أحد من حولهما يستمع، وإن سمع لا يفهم العربية.
لم أستطع منع أذني من مفارقة رأسي، والاندساس للتنصت على راكبين، لم أكن قبل دقائق أعرف أي شيء عنهما. دقائق قليلة انقضت، أصبحت بعدها أعرف كل شيء عنهما: ثمن القميص الذي يرتديه الشاب، من أين اشتراه، تفاصيل ذوق خطيبته. وأعرف أنهما في رحلة تسوق لشراء تجهيزات زفافهما.
وصلت الحافلة رقم (10) إلى محطة "نايتس بريدج"، تمعنت وجوه الركاب الجدد من نافذة الطابق العلوي، وما أن أخذوا مقاعدهم، حتى سمعت لهجةً عربية أخرى بين ركاب آخرين. سكت العروسان عن الكلام المباح، ورميا آذانهم الأربع نحو الراكبين، وبدوري، نقلت اتجاه أذني نحو المقعد المجاور، لالتقاط قصص جديدة من ركابٍ عرب، يعتقدون أن من حولهم لا يستمعون، وإن سمعوا لا يفهمون اللغة العربية.

تركت العروسين يستمتعان ببعض الخصوصية، ويكملان مخططهما للتسوق في متاجر هارودز، وتركت باقي عرب الحافلة وشؤونهم، وهربت ببصري، أتابع، من خلف النافذة على الطابق العلوي للحافلة، شوارع لندن ومن فيها. هي متعة قلما أحظى بها، طالما أنني اخترت، مثل الملايين في هذه المدينة، السفر بقطارات الأنفاق التي لا تبصر من خلف نوافذها إلا الظلام الذي يذكّرني بمقولة جدتي "غربة وكربة وكحل أسود".
حتى شوارع لندن باتت تغني بالعربي، وتدخن بالعربي، وتتعطر بالبخور بدلاً من "شانيل" أو "سي كي". على رصيف شارع "نايتس بريدج" مقاهي ورائحة المعسل من نراجيل الجالسين تختلط برائحة العود والعنبر من أثواب العابرين. وفي الخلفية، محلات ومتاجر بأسماء عربية، وفي عرض الشارع، وعلى طوله، سيارات فارهة بلوحات أرقام عربية مميزة، وألوان عربية لافتة، وشباب اختاروا شوارع لندن، للطرب على أغاني نجوى كرم وكاظم الساهر ومحمد عبده، بدلاً من إلتون جون أو إيديل.

قبل أن تصل الحافلة رقم (10) إلى المحطة الأخيرة في "همرسميث"، أخرجت قلمي، وكتبت في دفتر ملاحظات: في لندن، تجنب الحديث في مواضيع شخصية، لأن فرضية أن من حولك لا يتنصتون، وإن سمعوا لا يفهمون العربية، لا تصح دائماً.
قبل أن أضع النقطة في نهاية السطر، قال الراكب الجالس إلى جانبي، منذ بداية رحلة الحافلة رقم (10): "معك حق يا أخ. إنهم لا يتنصتون وحسب، إنهم يقرأون أيضاً...
 

 

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.