1973 .. حرب مفتوحة على التأويل
مع اقتراب كل ذكرى لحرب أكتوبر (أو تشرين) 1973 يتكرّر الانطباع بأنها، بالنسبة لكثرٍ من الإسرائيليين، بمثابة "حربٍ غير منتهية"، بما يُحيل دلاليًا إلى أنها ما زالت مفتوحةً على التأويل. وفي غمرة جائحة كورونا، صادف عدة مرات أن طُرح تساؤل عما إذا كان ثمّة وجه للمقارنة بين أزمة الجائحة وحرب 1973؟ وهناك من يعتقد أن المقارنة تصحّ من عدّة وجوه، ليس أبسطها أن الجائحة داهمت الدولة، كما العالم، على حين غرّة، مثلما كانت الحال، إلى حدّ ما، بالنسبة إلى الحرب المذكورة، من حيث كونها، من ناحية، لم تكن متوقعةً استخباراتيًا، كما يزعم بعضهم خلافًا لبعض آخر يدّعي العكس. ومن ناحية أخرى، من زاوية وقائع خوضها، ناهيك بالاستعداد لها، والتي كادت أن تفضي إلى إلحاق هزيمة بإسرائيل تمحو أثر هزيمةٍ ألحقتها بدول عربية قبل ذلك بستة أعوام في حربٍ خاطفة دامت ستة أيام، وعندما استراحت في اليوم السابع ألفت نفسها رابضةً على مزيد من أراضي فلسطين التاريخية، وكذلك على أراضٍ مصرية وسورية.
وإذ نقول إن المفاجأة ليست أبسط ما انطوت عليه الجائحة لدى مقارنتها بحرب 1973، مع ضرورة الإشارة إلى أن هناك من نفى ذلك جملة وتفصيلًا، فإننا نقصد بالأساس أن هناك ما هو أبعد دلالةً منها، بما قد يرسم ما يشبه البورتريه للواقع القائم في إسرائيل حاليًا، فالذين يعتقدون أن إسرائيل كسبت الحرب، في نهاية المطاف، يؤكّدون، في الوقت عينه، أنها أصيبت بخسائر جسيمة، بينما تسبّب الفشل الاستخباراتي المريع بصدمةٍ هائلة للجمهور العريض. ومثلما كتب بعض هؤلاء، فإنه على غرار بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، قد تكون إسرائيل خرجت من الحرب منتصرة، لكنها خسرت إحساسها بالمنعة، وتآكل يقينها بأن "جيشها لا يقهر"!
والآن على أعتاب ذكرى تلك الحرب، فإن أول ما نطالعه من تأويل يتمثل في تكرار استنتاجٍ مؤدّاه أن تجهيز الجيش الإسرائيلي لأي حربٍ قد يخوضها يجب أن يتم "على أساس القوة التي يمتلكها العدو الذي سيحاربه"، لا "بناء على تقديرات إسرائيل نياته". وهذا درسٌ قاله جميع الذين أخذوا على إسرائيل، بمؤسستيها السياسية والعسكرية، استغراقها حتى الثمالة في مشاعر النشوة التي انتابتها بعد الانتصار الذي حققته في حرب حزيران/ يونيو 1967. وهي مشاعر تسبّبت إثر الحرب المذكورة بشيوع تقديراتٍ لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، تتعلق بقوة مصر وجيشها، مبنية على النيات والرغبات أكثر مما على قوتهما الحقيقية، وفي مقدمها التقدير بأن مصر لم تعد قادرةً على شن حربٍ ضد إسرائيل. ولقد شهد أحد الضباط الإسرائيليين من الذين اشتركوا في حرب 1973 أنه سمع بنفسه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش في ذلك الوقت، يقول أمام دورة ضباط من فرقة المظليين إن "مصر باتت دولة يُرثى لها"!
يلي هذا التأويل مباشرة تأويل يستند إلى وقائع عملية "سيف القدس" في مايو/ أيار الفائت، ويشير إلى أن اعتماد إسرائيل على "تحقيق انتصار" بواسطة سلاح الجو فقط هو بمنزلة خطأ استراتيجي فادح، حسبما لا ينفكّ يؤكد اللواء احتياط، يتسحاق بريك، الذي شغل سابقًا منصب قائد الكليات العسكرية، والمسؤول عن معالجة شكاوى الجنود في الجيش الإسرائيلي. برأي بريك، طوال سنواتٍ كانت قوة سلاح الجو بارزة في مواجهة طائرات العدو وتفوّقه عليه واضح، لكن قدراته تعطّلت في الستينيات في مواجهة القذائف والصواريخ. وفي السنوات الأخيرة، أُهمِل سلاح البر وتدهور، وهو الآن على وشك الانهيار. وفي عملية "سيف القدس"، أثبتت حركة حماس، كما يؤكد، قدرة كبيرة على الصمود، وواصلت إطلاق القذائف، حتى تحت هجمات غير مسبوقة لسلاح الجو، لم تؤدِ إلى ردعها، وتمكنت من شلّ الحياة في معظم أنحاء الدولة طوال المعركة، وتسبّبت بأضرار اقتصادية تُقدّر بمليارات الدولارات، جرّاء توقف جزء كبير من الاقتصاد المُنتج، بالإضافة إلى التكلفة الباهظة لآلاف القنابل الدقيقة التي أسقطت على أهداف في غزة.