يوم في محكمة الجنايات الكبرى

07 فبراير 2022

(يوسف سيفاو)

+ الخط -

وسوست لي نفسي الأمّارة بالحنين زيارة محكمة الجنايات الكبرى، في عمّان، التي كانت يوماً مكاني المفضل في أثناء مزاولتي مهنة المحاماة. عالم غرائبي عجيب حافل بالقصص المروّعة. وذلك بعد انقطاع طويل عن المهنة، بحثت طويلاً في أدراجي عن الرداء الأسود ذي الأكمام العريضة الذي يرتديه المحامون قبل مباشرة الجلسات، فيضفي عليهم شيئاً من المهابة والمظهر المهني الرزين اللائق. لم أعثر عليه. تذكّرت أنّني أعطيته لزميلةٍ قبل أن يسرقني عالم الأدب والصحافة، ويُبعدني عن قاعات المحاكم سنوات طوالاً. اكتفيت بمعطف أسود طويل ساعدتني برودة الجو على ارتدائه طوال اليوم. فوجئت بأنّ مقر المحكمة انتقل إلى جنوب العاصمة عمّان مجاوراً لسجن الجويدة؛ مبنى ضخم بأسوار عالية وحراسة أمنية مشدّدة. يجلس الحرّاس في غرف صغيرة الحجم أقرب إلى الأكشاك يتحلقون حول مدفأة كهربائية، يُخضعون زوار المبنى لتفتيش دقيق، ويتبادلون تحيات الصباح والحوارات الودّية مع الوجوه المألوفة من المحاميات والمحامين. لم يكن وجهي مألوفاً لأيّ منهم، كان عليّ إبراز البطاقة النقابية كي أتمكّن من الدخول.
لاقيتُ من الترحيب من الزملاء والقضاة ما بدّد ارتباكي وتهيّبي. فرحت بلقاء زملاء قدامى وتشجيعهم لي للعودة إلى المهنة الأجمل. أسعدني وجود محاميات شابّات منخرطاتٍ بمهارة وجدّية وحرفية في تخصص قانوني يتطلب جرأة وصلابة وشدة بأس. حدّثنتي إحداهن، بزهو كبير، عن فوزها بقضيةٍ صعبةٍ، تمكّنت خلالها من الحصول على قرار المحكمة بسجن أربعة مجرمين 45 عاماً مع الأشغال الشاقة لقيامهم بعمليات اغتصاب متكرّرة. دلفت إلى قاعة المحكمة لحضور بعض الجلسات، واستعادة إحساسي القديم بالإثارة والتشويق.
كانت الزنزانه مكتظّة بالمساجين، بزيّهم الأزرق القاتم ولحاهم غير الحليقة وملامحهم المذعورة. معظمهم شبّان في العشرينيات من أعمارهم. يتقدّم الواحد منهم، حين يُتلى اسمه. يتشبث بالقضبان، ويستمع باهتمام إلى مجريات قضيته. نبّههم القاضي، حين علا صخبهم قائلاً: "هدوء يا إخوان بدنا نشتغل. أمامنا اليوم سبعون قضية". 
كان القرار الأول في الجلسة حكماً بالإعدام على شاب ارتكب جريمة قتل بحق شخصين أجهز عليهما حرقاً. كان مغمض العينين يتلو آيات من القرآن الكريم، ويرتجف بشدة في أثناء النطق بالحكم. كان من الصعب ألّا تعتريني الشفقة على روحه التائهة، على الرغم من فظاعة الجريمة، وألّا أتساءل عن الظروف التي تدفع أيّاً كان إلى أن يُقدم على فعلٍ شنيعٍ كهذا. كان مستحيلاً ألّا يصيبني الارتباك والذعر من اللهجة المحايدة للقاضي من فرط الاعتياد. جُلبت للقضية الثانية فتاة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، تبدو منكسرة وحزينة. نالت الكثير من تعاطفي بجسدها الضئيل المرتجف، إلى أن استمعت إلى حيثيات قصتها الرهيبة. كانت قد أقدمت على ضرب ابن زوجها البالغ خمس سنوات ضرباً مبرّحاً أفضى إلى الموت. توقعت أن تنال حكماً بالإعدام عقاباً لها على جريمتها الشنعاء، غير أنّ المحكمة منحتها حكماً مخففاً بالحبس ثماني سنوات، لقناعتها بعدم توفر نية القتل، إضافة إلى إسقاط والدي الطفل المغدور حقهما الشخصي. وفي الجلسة التالية، تم جلب فتاة عشرينية على قدر من الجمال، نالت حكماً بالحبس سبع سنوات، بتهمة اشتراكها في عصابة مختصّة بالسطو المسلح والاعتداء بالضرب وإيقاع الأذى.
وفي إجابةٍ عن سؤالي بشأن مشاعرهم، وعن مدى تأثير هذا الفضاء العنيف على حياتهم الشخصية، أكد الزملاء أنّهم مثل الأطباء تماماً. اعتادوا على مواجهة الألم الذي ترتّبه قسوة الحياة، وأنّ لديهم القدرة على الانفصال كلياً، بمجرّد مغادرتهم قاعة المحكمة، وذلك ما يراودني الشك في الوصول إليه من دون أن أتورّط عاطفياً ونفسياً في ما لو قرّرت تسلم قضايا من هذا النوع.
وما زال الأمر قيد الحيرة في رأسي.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.