يوميات إسماعيل شمّوط في غزو الكويت
أفقنا صباح ذلك اليوم، الثاني من أغسطس/ آب 1990، على نبأ غزو الجيش العراقي الكويت. عبرَت ذكراه أول من أمس، فوجدُتني أتناول من بين كتبٍ قدّامي "أيام الغزو ... يوميات إسماعيل شمّوط أثناء احتلال الكويت" (منشورات تكوين، الكويت، 2022). وكنت، قبل أسابيع، قرأتُ نحو نصف صفحاته الـ476، فأكملتُه، وهو يضمّ يومياتٍ بدأ التشكيلي الفلسطيني، رحمه الله (2006) تدوينَها في منزله في حي الجابرية في العاصمة الكويت، منذ أولى أيام الغزو حتى إخراج الجيش العراقي من الكويت تماما في 28 فبراير/ شباط 1991. وفي هذه الشهور، لم يُمسك شمّوط الريشة. كتب "من نعم الله أن لديّ في البيت الكثير مما يمكن أن يشغل وقتي. الشيء الوحيد الذي لم أجرّبه، ولا أشعر أني قادرٌ عليه، هو دخول المرسم لأرسم". وكان الاتفاق مع صديقه الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، رحمه الله (2018) على أن يتبادلا دوريْهما "أنتَ ترسم وأنا أكتُب"، كما قال التشكيلي للروائي، "بما أني عاجزٌ عن مواصلة الرسم، وأنت عاجزٌ عن متابعة الكتابة". ثم لم يرسِم إسماعيل الروائي لكن إسماعيل التشكيلي كتب. وبعد شهور الاحتلال السبعة، سلّم صديقَه مغلّفا، فيه يومياتُه في أثنائها، "أربع مئة وخمسين صفحة دقيقة الخط من القطع الكبير"، على ما أفاد الروائي سعود السنعوسي في مقدّمته الكتاب، والتي أوضح فيها أن تلك الأوراق أقامت في منزل إسماعيل فهد إسماعيل في ضاحية بيان في الكويت نحو سنة، ثم مكثت معه في مانيلّا، في "علبةٍ كرتونية بحجم علبة الطماطم والخيار" خمس سنوات، ثم في شقّته في حولّي في الكويت 20 سنة، ثم بضع سنواتٍ في مكتب السنعوسي، قبل أن تتبنّى دار النشر نشرَها بالاتفاق مع أسرة الكاتب، وقد استغرقت الرحلة هذه 31 سنة.
ثابر إسماعيل شمّوط على تسجيل الكثير من السياسي والعسكري والدبلوماسي العام، بإفراط. وعلى تسجيل الشخصي الأسري العائلي الاجتماعي العام من دون إفراط. وبذلك، تمثّل يومياته وثيقةً لمسار الأحداث اليومية في تلك الشهور الكئيبة. لم يترُك سفرةً لوزيرٍ أو رئيسٍ أو ملكٍ أو مبعوث، عربيٍّ أو أجنبيٍّ، تتصل بموضوعة الغزو، إلا وجاء عليها، وعلى محادثاتٍ ومداولاتٍ ومهاتفاتٍ واجتماعاتٍ بلا عدد في عواصم العالم تعلّقت بالحدث المهول، نقلا من نشرات الأخبار التلفزيونية والإذاعية التي انقطع لسماعها الرسّام القلق على أسرته وشعبه وأمّته، وعلى الكويت وأهلها. ولئن يعجَب واحدُنا بكل ذلك الدأب على ملاحقة كل خبر (وكل إشاعة)، وكل تفصيل، فإنك ربّما ستتفّهم هذا الحال. وربما تكون، أنتَ قارئ الكتاب، قد زاوَلتَ شيئا من هذا إبّان كان قلقُ العرب جميعا على الكويت والعراق معا، بعد أن اقترف الطاغية الفاشل حماقَته الكبرى، لتصير من أسباب إقامة الأمة في قيعانها الراهنة.
لعبُ الورق (الشدّة) مع الأبناء الذين سافروا لاحقا، ومع زوّار وأصدقاء وأقارب، والتجوال الحذر القليل في أسواق العاصمة، وشراء ما أمكن من حاجات وطعام، والتعرّف على أسعارها (بالعراقي والكويتي) وتسقّط أخبار المعارف والجيران، من غادر إلى عمّان وغيرها، ومن بقي، ومن قدِم إلى الكويت أيضا، ومشاهدة مسرحياتٍ ومسلسلاتٍ (شرائط فيديو وعلى شاشة التلفزيون العراقي)، كانت من "أنشطةٍ" كثيرة زاولَها صاحب اليوميات الدؤوب لكسر الملل من سماع الأخبار التي عبَرت في رتابةٍ في بعض الأيام، غير أن عينيه ومداركه، في الأثناء، كانت منشغلةً بمراقبة كل شيء. ومن كثيرٍ عاينتْه، وحضر في اليوميات، الشائقة في صفحاتٍ غير قليلة منها، سلوكيات الجنود العراقيين، ومسموعاتٌ عن ممارسات كويتيين ضد فلسطينيين، وما صار يثور من انطباعاتٍ عن الفلسطينيين، أغضبت أهل البلد، فظهرت تعبيراتٌ عنصريةٌ، محدودة، ضدّهم. وفي الغضون، بسط الملوّن الكبير مواقفه وآراءه الناقدة لخيار القيادة الفلسطينية الذي بدا مائعا، غير واضحٍ في إدانةٍ مطلوبةٍ لاحتلال الكويت، ومُراهنا، أحيانا، على إنجازٍ يحقّقه صدّام حسين لفلسطين وقضيّتها. كان إسماعيل شمّوط يستهجن هذا، ويرفضُه، صدورا عن قناعته إن الديكتاتوريات المدمّرة لا يمكن أن تصنع أي خيرٍ لشعوبها وأمتها.
لا تُقرأ هذه اليوميات فقط في ذكرى غزو الكويت، وإنما في كل وقت، ففيها عرضُ حال لمقطعٍ شديد الحساسية في تاريخ الأمة. ربما يلقى القارئ في مواضع فيها إسهابا لا ضرورة له في تفاصيل عارضة، غير أن في وُسعِه أن يلتقط الكثير من الجوهريّ العام. وفي كل حال، سيستشعر رهافةً عاليةً أقام عليها فنانٌ كبير، خاف على أمّته، وعلى مصائر شعوبها، وعلى ما يتنكّبه الفلسطينيون في الأثناء.