يومها الماطر الحزين
مطر غزير ينهمر بلا توقف منذ الليلة الفائتة، وهذا أمر ينبغي أن يكون كفيلا بإزاحة الإحساس بالكآبة عن روح المرأة الضجرة التي تعاني، في العادة، من مزاج متكدّر في الصباحات. غالبا ما تجد صعوبة في النهوض من الفراش. لا ترغب في سماع أي أصوات سوى تلك المحتويات الأكاديمية المتوفرة على قنوات يوتيوب التي تفسح لها ساعات إضافية من النوم العميق، حال انهماك المحاضر في الشرح والتحليل. تضع الموبايل على الوسادة الخالية. تشدّ الأغطية فوق جسدها في صباحها الماطر هذا، وتتكور مثل جنينٍ حانت لحظة ولادته، غير أنه لا يشعر بالحماسة لمغادرة الرحم الدافئ الآمن، لأن لديه كثيرا من التوجس إزاء العالم الغامض الذي يتأهب مرغما للالتحاق به. تستمع وهي تحاول معاودة النوم إلى محاضرةٍ فلسفيةٍ عن تاريخ الخوف.
يتحدّث المفكر حسن حماد بإيقاع رتيب، يبعث على النعاس، تحاول تجاهل صوت المطر الذي يضرب نافذتها بقوة، يدعوها إلى الخروج، كما كان يحلو لها أن تفعل كلما أمطرت، لكنها تقاوم دعوة الغيوم السخية لتغيب في غفواتٍ متقطعةٍ يمتزج فيها صوت المحاضر، وهو يقول إن "حقيقة الخوف من الموت استخدمت لتدجين البشر، لأن إحساس الإنسان بأن حياته عابرة ومتناهية يجعله مرعوبا بصفة دائمة، فيقع فريسةً سهلةً لأي فكرة بديلة، تقترح عليه إمكانية العودة والخلود في زمن أو مكان آخر". تنهض المرأة بتثاقل، تتذكّر رائحة ومذاق أول فنجان قهوة يتخلّل حواسّها، ويحرّضها للانخراط في الحياة من جديد. تواجه تحدّيا يوميا يبعث على الغيظ، وهو مغادرة ثياب النوم وممارسة طقوس الاستعداد، للخروج فقط كي تثبت لنفسها أنها ما زالت على قيد الوجود. تتجول في صفحات "فيسبوك" التي باتت، في معظمها، مجموعة من المراثي للراحلين الكثر، وبعض الردح والشتائم المتبادلة، في سياق خصوماتٍ تافهة، تعبّر عن مقدار العدوانية والشراسة والنرجسية والهيام بالذات الذي وصل إليه بعضٌ ممن يفجُرون في الخصومة، ولا يتوانون عن الإساءة للآخرين، وانتهاك خصوصياتهم بدون أي رادع أخلاقي.
تروّعها قصة الفتاة التي تصدّرت مواقع التواصل تحت عنوان "فتاة مستشفى الجامعة الأردنية"، حيث ترقد الآن بين الحياة والموت، في حالة غيبوبة تامة، على إثر تعرّضها للضرب المبرح من إخوتها، بإشراف والدها ومباركته، بسبب ضبطها تتحدث مع زميلها على الهاتف! ضربها أولئك المجرمون قساة القلوب بلا رحمة، وهشّموا دماغها، ثم حبسوها في الحمام نازفة يومين متتالين، قبل إرسالها إلى المستشفى مكرَهين، شبه ميتة، فاقدةً حواسّها كلها. يعتري المرأة الندم، لأنها استسلمت لغواية صوت المطر، فتوهّمت، لحظة خاطفة، أن الحياة ما زالت ممكنة. تدرك أن مظاهر الجمال الصباحي المباغت محض خديعةٍ لن تغير شيئا من قبح الواقع. تحس بالضغينة تجاه تلك المجتمعات الذكورية البائسة، غير الرحيمة بالنساء، المتربصة بهن، الكارهة لهن، المتقبلة بل والمتواطئة لمصادرة حقهن في الحياة على أبسط هفوة، يتملّكها إحساس بالعجز ولا جدوى التنديد بتلك الجريمة البشعة، مثلما فعل ناشطون وناشطات كثيرون.
تحاول الانهماك في شؤون يومها، مثلما يفعل بقية خلق الله من مرتاحي البال غير المكترثين، ممن يركزون على أنفسهم، غير عابئين بما يجري حولهم من كوارث، غير أن صورة تلك الصبية المغدورة المتروكة نازفةً على بلاط حمام بارد ظلت تلحّ عليها بلا توقف. يتملكها إحساس مريع بالغربة في وطنٍ يبرّر العنف والتخلّف واللامبالاة، فيغدو الإقدام على قتل النساء بدم بارد مجرّد سلوك فلكلوري روتيني عادي، يحدث بين الحين والآخر. ولا يستدعي ذلك كله الضجيج الافتراضي الذي قادته نساء غاضبات، وصفهن أحد الجهلاء بمتصابيات فيسبوك الممولات!
يواصل المطر انهماره الغزير، غير أنه لا يغسل عن روحها كل ذلك الحزن، ولا يُحدث أي اختلافٍ في يقينها الراسخ بأن القادم في هذه البلاد المنكوبة بذاتها ليس أجمل بالضرورة.