يوسف إدريس وزوجته المكسيكية

02 اغسطس 2019
+ الخط -
اكتملت أمس ثمانية وعشرون عاما على وفاة يوسف إدريس. وربما تكون هذه الذكرى مناسبةً لاستعادة الذائع عن المكانة الثقيلة لأدب هذا الكاتب الرائد، وللتنويه مجدّدا بما أشعله في بدن القصة القصيرة العربية ومبناها وحداثتها ولغتها. لن تفعل هذه السطور هذا، وإنما تذهب إلى زواج إدريس، في السادسة والعشرين من عمره، أي في العام 1953، من المكسيكية روث ريفيرا، ابنة فنان الجداريات العالمي، دييغو ريفيرا، نحو عام فقط. ولكن هذا شأنٌ شخصيٌّ جدا، وواقعةٌ غير معروفةٍ عن صاحب "لغة الآي آي"، فلماذا الاكتراث بها؟ إنها واقعة صدور روايةٍ لافتةٍ، نابهةٍ، متقنةٍ معمارا ولغةً وسردا، اسمها "الزوجة المكسيكية" (دار الشروق، القاهرة، 2018)، لكاتبها الروائي المصري، والأستاذ الجامعي في الطب، إيمان يحيى، تسوّغ الإتيان على ذلك الزواج القصير، لا لتكون روايةً فقط عن جهد استقصائيٍّ لتأكيد ذلك الزواج، وإنما للقصّ عن سياق اجتماعي وسياسي عَبَرت فيه مصر، منذ ديسمبر/ كانون الأول 1952، لمّا التقى يوسف إدريس المعمارية والناشطة الشيوعية المكسيكية، روث ريفيرا، في مؤتمر كبير في فيينا، وحتى نهاية 1954، لمّا بدأ يكتب روايته "البيضاء"، استيحاءً من تجربته مع روث التي سمّاها سانتي وجعلها يونانية. 
ما صنعه إيمان يحيى في عمله هذا يدل على أن حال الرواية العربية الراهنة بخير، على الرغم من بؤس نصوصٍ وفيرةٍ لا ينفكّ السوق يطرحها، ذلك أن "الزوجة المكسيكية" تؤالف بين مضمونٍ ينطق بمناهضة الشمولية، وينحاز إلى الحرية وحداثة النظام السياسي، وشكلٍ يناور ويراوغ، وينبني على تعالقٍ (أو تناص، لا أدري؟)، أو تجاورٍ، أو توازٍ، مع رواية "البيضاء" التي كان بطلها، الدكتور يحيى (قناع يوسف إدريس)، الراوي الوحيد فيها، بضمير المتكلم، فيما هو واحدٌ من ثلاثة أصواتٍ في "الزوجة المكسيكية"، ينطق عن نفسه راويا، كما روث ريفيرا التي بدا صوتها تحكي تحدّيا كبيرا نجح فيه إيمان يحيى، ليس عندما تخيّلها فقط، بل لمّا برع في تمثّل مشاعرها وأمزجتها وأحوالها، مُحبّةً وقلقةً وخائفةً وفرحةً متوترةً وضجرةً وساخطةً و..، وهي المكسيكية المنتسبة إلى إيقاعٍ نفسيٍّ وثقافيٍّ مغاير، أو ربما مضاد، لما كان عليه الدكتور يحيى، حبيبها ثم زوجها ثم طليقها (خلال عام). والصوت الثالث هو الدكتور سامي جميل (قناع إيمان يحيى؟) أستاذ الأدب العربي المنتدب في الجامعة الأميركية، والذي يبحث في العشرية الأولى من الألفية الثالثة، في رواية "البيضاء"، وفي ذلك الزواج المجهول ليوسف إدريس، وفي أجواء مصر، والقاهرة تحديدا، السياسية والثقافية، بُعيْد ثورة يوليو في 1952، لمّا اشتدّت حملات اعتقال الشيوعيين وغيرهم، واختنق المجال العام، وبدأت منازعات ضباط "الحركة المباركة" الحاكمين في البلد، بين بعضهم.
وثمّة الطالبة الأميركية، النصف مصرية، سامنثا، طالبة الدكتور سامي، والتي تعدّ رسالة جامعية بإشرافه، عن "البيضاء". وتبدأ "الزوجة المكسيكية" باعتقال السلطات المصرية لها، وترحيلها إلى بلدها، بسبب صلاتها مع نشطاء حركة كفاية، في العام 2005، ومشاركتها في وقفاتهم. وفي هذه "العتبة" (تسمية إيمان يحيى مفتتح روايته) عن هذا الاعتقال، والتي يدخل منها قارئ الرواية إلى ارتحالاتٍ زمنية من خمسينيات القرن الماضي إلى مطالع القرن الحالي، وإلى فضاءات أمكنةٍ وشوارع وميادين ومقاه وفنادق في فيينا والقاهرة ومكسيكو سيتي. وفي هذه العتبة إحالةٌ دالّةٌ إلى المنطوق العام للرواية عموما، نبذ التسلط والاستبداد، أكان في زمن الغبطة بثورة يوليو أم في زمن حسني مبارك قبيْل ثورة يناير 2011.
وإذا كان إيمان يحيى أراد روايته التي تَحقّق مقصدُه الأول منها، وهو المتعة، بكفاءةٍ مؤكّدة، تحيّةً إلى يوسف إدريس، فإنه أضمر، في سردِه وحكيه، وإنْ بأصوات ثلاثةِ رواةٍ، تفهّما لازورار القاص الشهير عن التنظيم الشيوعي الذي انتسب إليه في شبابه، قبل فترة اعتقال قصيرة، ثم كتابته "البيضاء" التي تردّد إنه صفّى فيها بعض حساباته مع التنظيم. وعلى أي حال، ولأن كل إيجازٍ مخلٌّ، ولأن كل روايةٍ بديعةٍ ليست حكايةً وحسب، وإنما مبنى ولغة وفضاءات ومجازات، فإن السطور أعلاه لم تحتفل بـ "الزوجة المكسيكية" التي آخت بليونةٍ فائضةٍ بين المتخيّل والموثّق، كما تستحق.. رحم الله يوسف إدريس.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.