يسار "إلى اليمين دُرْ"
قد لا يملك المرء جواباً جازماً عن السؤال في ما إذا كان إقدام مندوبي ما توصف بأنّها أحزاب يسارية صهيونية في الحكومة الإسرائيلية الحالية على تأييد بعض السياسات والإجراءات التي تنمّ عن مواقف يمينية فاقعة هو تأييد اضطراري تحت وطأة الانضباط الائتلافي، أو أنّه ناجمٌ عن تماهٍ حقيقيّ. بالرغم من ذلك، يمكن الإشارة إلى مواقف كثيرة بدرت في السابق عن هذه الأحزاب، ولا تُخجل تلك التي على يمينها، إن لم تكن حتى متفوقة عليها. وهنا نموذجان:
يتعلق النموذج الأول بموضوع الاستيطان وتوسعته، لا سيما في الأراضي المحتلة منذ 1967. فأخيراً، وفي سياق إجمال عهد بنيامين نتنياهو رئيساً للحكومة الإسرائيلية 12 عاماً متواصلة، جرى الكلام في هذا الموضوع بقدر ملفتٍ من الامتعاض لدى قوى تعتبر نفسها تقف عن يمينه، أشارت إلى أنّ أعمال البناء في المستوطنات في أراضي 1967 في ذلك العهد، لجهة المعدّل السنوي، ظلّت أقل مما كانت عليه إبّان فترات حكومات لم تكن محسوبة على اليمين، على غرار حكومتي إيهود أولمرت (2005 - 2008)، وإيهود باراك (1999- 2001). وبلغت أعمال البناء هذه نقطة الذروة، كما تشير الإحصاءات الرسمية، في فترة حكومة باراك، حين كان رئيساً لحزب العمل (يسار)، فمعدّلها عام 1999 بلغ 3491 وحدة سكنية جديدة وبلغ 4958 وحدة في العام الذي تلاه، وهو أعلى معدّل على مرّ جميع الأعوام.
سيقول بعضهم بحق إنّ موضوع الاستيطان والسيطرة على الأرض عابر للأحزاب في إسرائيل، وإنّ تطورات كثيرة حدثت فيها، بما في ذلك بعد فترة اتفاقيات أوسلو، أثبتت، بما لا يدع مجالاً لأيّ شك، أنّ القوة الأكثر نفوذاً داخل الحكومات الإسرائيلية هي قوة المستوطنين "الكولون" في أراضي 1967، لكن في الوقت عينه من شأن هذه المعطيات أن تعيد الأمور إلى أصولها، في كلّ ما يخص مسألة الاصطفاف السياسي في دولة الاحتلال.
النموذج الثاني مرتبطٌ بما يُعرف بإحياء "يوم التاسع من أغسطس/ آب" بموجب التقويم العبري والذي تصادف فيه، حسب العقيدة الدينية اليهودية، ذكرى خراب الهيكلين اليهوديين من البابليين والرومان، فالوقائع الإسرائيلية تفيد بأنّ إحياء هذا اليوم كان في السابق بمثابة حكر على أطياف معينة في الحركة الصهيونية، وليس على جميعها، إلى أن حثّ أحد كبار قادة الطيف العمالي على إحيائها لتوثيق صلة حاضر اليهود بماضيهم السحيق المؤسطر. هذا القائد هو بيرل كتسلنسون الذي دعا منذ عام 1934 إلى إحياء ذكرى خراب الهيكلين، معتبراً أنّه لولا مثابرة اليهود على هذه المراسم لما قامت للحركة الصهيونية قائمة، ولما استجمعتهم من حولها. وللعلم، هذا القائد هو نفسه الذي تتواتر في الفترة الأخيرة نشاطات استعادة إرثه، لتحقيق غاية "ترميم اليسار الصهيوني" كونه، في الوقت ذاته، ممن تبنّى أفكاراً اشتراكيّة.
يوضح هذان النموذجان ماهية اليسار الإسرائيلي، فهو استيطاني لا أقلّ من اليمين، ومسيانيته تشكل واحدةً من لزوميات المشروع الصهيوني، كما كانت الحال دائماً، بما من شأنه ألّا يترك أيّ مجال لوهم بأنّه سيجلب معه تغييراً انعطافياً.
ولا يُعدّ حاضر هذا اليسار منقطعاً عن الماضي، كما نوّه الكاتب في مناسباتٍ عديدة. فأول برنامج استيطاني في أراضي 1967 (برنامج ألون) صاغه حزب العمل بعد فترة وجيزة من انتهاء حرب يونيو/ حزيران 1967، وكانت غايته ترسيخ وجود إسرائيلي ثابت في المناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية، من خلال شمل حدّ أدنى من السكان الفلسطينيين في تخوم هذه المناطق، والمُعدّة لأن تبقى خاضعة لسيطرة إسرائيل. وجرى توسيع المناطق المشمولة في "برنامج ألون" بمقدار كبير، في 1973، عبر "برنامج غاليلي" الأكثر غلوّاً. وبشكل تدريجي، حدثت نقلة كبيرة في مفاهيم وتصورات سابقة، لا سيما حيال المناطق الحدودية، والاستيطان.