يحدث في الأردن الآن

31 مايو 2018
+ الخط -
كان الأردنيون، في عام 1979، تحت الأحكام العرفية، وكانت الأحزاب محظورةً، والمخابرات شرسةً، والحريات شحيحة. ولمّا صارت الاحتجاجات الغاضبة على "كامب ديفيد"، وبين طلبة الجامعة الأردنية خصوصا، جنحت السلطة إلى قمعٍ أشدّ، وحبست طلابا عديدين. في تلك الأجواء، انتصرت النقابات المهنية لهم، وكان مقر مجمّعها في ضاحية الشميساني في عمّان مكان اجتماعات الفاعليات والشخصيات والقوى الوطنية، وشكّل مجلس النقباء لجنة محامين رفعت دعوى على الحكومة، وكسبتها، فعاد الطلاب إلى دراستهم. وفي غضون هبّة نيسان (إبريل) 1989، جعل مجلس النقباء من نفسه "هيئة أركانٍ منعقدةٍ على مدار الساعة للدفاع عن الشعب الأردني المنتفض"، بحسب تعبيرٍ للكاتب سعود قبيلات. كانت تلكما المحطتان في زمن مساحات التعبير الضيقة، والاختناق السياسي المعلوم. وفي زمن سعةٍ في مزاولة الحريات العامة، وفيما الأحزاب العاملة أكثر مما ينبغي، أي في اللحظة الراهنة، وتحديدا يوم أمس الأربعاء 30 مايو/ أيار 2018، تداعى أيضا إلى مبنى مجمع النقابات المهنية آلاف الأردنيين، ومن شرائح متنوعة، ليهتفوا بأغانٍ وطنيةٍ وثورية، ويعتصموا مؤكدين الالتزام بالإضراب العام الذي دعت إليه النقابات المهنية، والتزمت به تشكيلاتٌ أهليةٌ ومدنيةٌ واسعة، ليس فقط رفضا لتعديلاتٍ تلحّ عليها الحكومة على قانون ضريبة الدخل، وإنما أيضا تشديدا على أن الكيل قد طفح. 

في الوسع أن يُقال إن الإضراب نجح أيما نجاح، وإن الأردنيين أعادوا فيه اكتشاف أنفسهم، بل وفاجأوا من دعوا إليه. وفي الوسع أن يُقال أيضا إن الأردن موعودٌ بانعطافةٍ خاصة، تجعل ما بعد نهار أمس ليس كما قبله، سيما إذا ما تم البناء على ما حققوه أمس، من التزامٍ عريضٍ بالإضراب، وصل إلى نحو 80% في بعض المحافظات، ولم يقلّ عن 50% في أضعف الحالات، ومن وحدةٍ في الموقف بين تشكيلاتٍ وتياراتٍ حزبيةٍ وفاعلياتٍ نشطة، كثيرا ما اختلّ التنسيق بينها في غير شأنٍ بسبب خلافاتٍ سياسية وتنظيمية. وكلها، مع غالبية الشعب الأردني، لا ترى في مجلس النواب هيئةً تمثيليةً للأردنيين، وإنه قد يفعلها ويمرّر قانون ضريبة الدخل المعدّل برفع هذه الضريبة، كما تلقاه من الحكومة التي تستجيب فيه لمقتضيات برنامج إصلاحي مالي، فرض صندوق النقد الدولي كثيرا من مضامينه.
وهي مفارقةٌ أن الإضرابات عادة ما تلجأ إليها التمثيلات النقابية والمجتمعية بعد أن تنسدّ سبل الحوار في معالجة القضية موضوع الاشتباك مع الحكومة، غير أن ما حدث في الأردن جاء معكوسا، فالتصعيد يبدأ بالإضراب الذي لم يفلح رئيس الحكومة، هاني الملقي، في ثني النقابات عن التحشيد له وانتظامه في موعده الذي كان قد تحدّد ليبدأ من الساعة العاشرة صباح أمس. وفي الأخبار أن رؤساء النقابات أبلغوا الملقي، في جلستهم معه أول من أمس، أن عليه أن يسحب مشروع القانون من البرلمان، ثم يبدأوا حوارا مع حكومته، وقرأنا إنهم بعد رفضه ذلك انسحبوا من الجلسة من دون استئذان.
باستثناءاتٍ قليلة (نقابة أصحاب المخابز مثلا)، كانت المشاركة الكبيرة في الإضراب دليلا ظاهرا وقويا على أن في وسع شعبٍ يُغالب عنتا معيشيا مُعسرا (عمّان المدينة الأغلى عربيا) أن يزاول احتجاجا حضاريا، شديد الإيلام لحكومةٍ لا ترى، كما مثيلاتٌ لها سابقات، غير الجبايات من "الرعايا" لتوفير موارد تحتاجها. وكان الأداء العام في أثناء الإضراب مثالا على أن في وسع هذا الشعب أن يجهر بنفسه عمّا يريد، وقد اهترأت الأحزاب، وتآكلت صورة مجلس النواب الذي حاول رئيسُه، عاطف الطراونة، أن يُسعفها، بالقول إنه (المجلس) لن يستسلم للصيغة الحكومية لقانون ضريبة الدخل. ودلّ نجاح الإضراب على أن ثمّة مقادير طيبةً من العافية في الجسم المهني وتمثيلاته النقابية، وكذا في جمعياته واتحاداته العديدة، وأن الرهان على هذه التشكيلات في محله، ويتجدّد، لتتبدّى أنها الأكثر تعبيرا عن المجتمع، والأحقّ في الجهر بصوته.
مرجّحٌ ألا يُشغل الأردنيون أنفسهم كثيرا بالذي ستفعله حكومة هاني الملقي من أجل إنقاذ نفسها، وترميم حالها، وتمرير "إصلاحاتها" المالية، إذا ما ردّ مجلس النواب مشروع القانون المرسل إليه، ذلك أنهم سيجدون أنفسهم مُطالبين بتثمير الزخم الشعبي الذي تحقق أمس، وعدم تبديده في مساوماتٍ وتدخلاتٍ وترضياتٍ ليس مستبعدا أن تستجد وتطرأ.. هذا هو التحدّي الذي سينعطف إليه الأردنيون المتعبون بأنواء صعبة.. لنراقب ونتأمل.. ونتفاءل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.