"يا ريت" التي تتكرّر

02 سبتمبر 2024

(إدريس الضو)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

"يا ريت"... قالها فريد الأطرش في أغنيته "ياريتني طير وطير حواليك، مطرح ما تروح عيوني عليك"، وكرّرتها سميرة توفيق في أغنية من الموروث الشعبي: "بيا ولا بيك، ريت الوجع يا زين"، وفي أغنية أكثر حداثةً غنّت "معشوقة الختيارية": "ريتني خاتم بيدك ريتني، ريتني شامة ع خدك ريتني، ريتني خيط بعباية، ريتني صفحة بحكاية، ريتني ببيتك مراية كل صباح تشوفني). كما قالتها فيروز في أغنية تحمل العنوان نفسه: "يا ريت منن مدّيتن إيديّ وسرقتك". وقبل ذلك بزمن طويل غنّت في صباها: "يا ريت إنت وأنا بالبيت، شي بيت أبعد بيت".
ولم تنج أمّ كلثوم من حالة الترجّي والأسى والتسوّل العاطفي، حين سلطنت في أغنية "أنا في انتظارك"، فأشجت عشّاق صوتها بمقطع ردَّدته مراراً: "يا ريت يا ريت يا رتني عمري ما حبيت"، وكذلك حين ختمت أغنية "أمل حياتي" مردّدةً، في تعبير عن الرغبة في التشبّث باللحظة: "ياريت زماني ما يصحّنيش".
تمنّت صاحبة الصوت الذهبي، فايزة أحمد، في رائعتها "خليكو شاهدين على حبينا" قائلةً: "يلّي وخداك الليالي، يا ريتني طول العمر جنبك، يلي وحشاني عينك، يا ريتني طول العمر جنبك، حنستنى ونستنى يا ريت العمر يستنى". والحقّ أنّ الأمثلة في هذا السياق ستطول وتتنوّع وتتعدّد إلى ما لا نهاية، إذا قمنا بعملية رصد وحفر وتتبّع في الموروث الغنائي العربي، المُكتظّ بالأمنيات الحالمة التي تُعبّر عن العجز وقلّة الحيلة، اللذين يرافقان في العادة حالة العشق وتوابعه من الوله والتذلّل للحبيب، القاسي، "المُطنّش"، المتجاهل لمعاناة العاشق الولهان المعذّب.
وإذا ما سلّمنا أنّ الفنّ انعكاسٌ لثقافة الشعوب، وتجسيدٌ لآليات تفكيرها، ولطرائق تعبيرها، وتعبير عن مزاجها وطقسها النفسي وملامح واقعها المعاش، يمكننا الاستنتاج بسهولة أنّنا أمّة "يا ريت" بجدارة، مصطلح حاضر بقوّة في خطابنا، رغم أنّه من المفترض أنّنا نؤمن، بحسب المنطوق الشعبي، أنّ "كلمة ياريت لا تعمّر بيت"، غير أنّنا، وفي تناقض سافر، نتّكئ عليها عند أيّ مأزقٍ أو مطبٍّ يعترض مسار حياتنا في تعبير عن قدرية عاجزة قاصرة، فإذا تعرّض أحدنا لحادث سيّارة فقد يقول: "يا ريتني ما طلعت من البيت"، ولو أحرقت ربّة منزل طبختها ستقول بغضب: "يا ريتني ما اعتمدت على بنتي الكسولة كي تخفض النار في الموقد"، ولو خسر مستثمر أمواله في البورصة سيقول: "يا ريتني ما غامرت"، ولو أوقع شخص بين صديقَين حميمَين لقال: "يا ريتني ما فتحت تمّي".
"يا ريت" هنا بمثابة تحايل مفضوح على الإقرار بالخطأ، وتحميل مسؤوليته للأقدار، في إغفال مكشوف لدور الإرادة، مع الإدراك التامّ أنّ هذه العبارة ما هي إلّا تعبير عن الاستسلام للنتائج المؤسفة التي تترتّب من سلوكاتنا وتوقّعاتنا وأمنياتنا غير القابلة للتحقق.
وعليه، لعلّ الوقت قد حان لشطب هذه الكلمة من قاموسنا بغية التخلّص من تبعاتها غير المشرقة، لأنّها لن تُفضي بنا إلى أيّ نتيجة تذكر، بل تأسرنا وتقعدنا مهزومين في لحظة الفشل والضعف والانقياد والتنصّل، وتعفينا من تحمّل مسؤولية الفعل الحقيقي الكفيل بإحداث ثورة حقيقية على الواقع، عوضاً من الاستكانة والاكتفاء بالندم والتحسّر واللطم، والمضي في لعب دور الضحية غير المقنع، المُكتفِي بمواجهة المطبّات بعبارة "يا ريت اللي جرى ما كان"... رغم أنّه جرى وكان.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.