ياسر رزق .. الراوي العليم

01 مارس 2022
+ الخط -

يُخبرنا نقاد الأدب أن من تقنيات السرد في الرواية حكي السارد بضمير الغائب، ويسمّونه الراوي العليم، ومنها حكيُه بضمير الأنا. وقد تتجاور الاثنتان أو تتقاطعان أو تتناوبان. وثمّة أيضا سرد رواة متعدّدين. وهذه كلها من كيفيات إنتاج وقائع متخيّلة، أو باستيحاء حوادث معلومة، فتكون الكتابة هنا أدبا. أما في كتابة المادّة الصحافية، تقريرا أو خبرا أو تحقيقا، وكذا في تدوين وقائع تاريخية، فمن الألف باء فيهما تحصين المعلومة أو رواية الواقعة بأكثر من مصدر موثوق، سيما في المواضع التي لها أكثر من زاويةٍ للنظر فيها وإليها، أو يتعدّد المعنيون بها، وخصوصا عندما يشارك فيها غير طرف. وصدورا عن الألف باء البديهية هذه، لا تعسّف في رمي مروياتٍ كثيرةٍ للصحافي المصري، الراحل أخيرا عن 57 عاما، ياسر رزق، في كتابه "سنوات الخماسين .. بين يناير الغضب ويونيو الخلاص" (القاهرة، 2022)، بأنها أحاديةٌ، ناقصةٌ، تحتاج فحصا، مع التسليم بجواز عدم الطعن بصدقية تدوينِه منقولاته، فقد كتب عمّا سمع وعمّا شاهد، وعمّا كان في جوانحه وأفهامه من قناعات. والمسألة ليست هنا، وإنما في أنّه راوٍ عليم، وفي أن من نقل عنهم وسمع منهم وحشَد ما أخذ عنهم في كتابه (المهم في بعض المواضع) هم طرفٌ في ضفةٍ واحدة، فيما يغيب تماما الطرف الآخر في الضفة الثانية.
بوضوحٍ، ياسر رزق كان أكثر الصحافيين المصريين ارتباطا بالمؤسّسة العسكرية في بلده، وبالرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن أكثرهم عداءً لجماعة الإخوان المسلمين. وظلّ يحظى بمكانةٍ خاصةٍ لدى الأجهزة والسلطة في بلده (قبل ثورة يناير أيضا). وبذلك ليس متوقعا منه الحياد عندما يُنجز كتابه هذا، وإنما مطلوب منه أن يتوخّى الموضوعية "قدر ما يستطيع"، وهو يعد بها، على ما "يزعُم" (مفردُته) في المقدمة، غير أن مذبحةً كبرى للموضوعية يرتكبها كتابُه الذي استقبلته أوساطٌ مصريةٌ عريضةٌ باحتفاء، تعاطفا مع كاتبه وقد توفي شابا، وانحيازا لمضمونه، وربما أيضا لمحكياتٍ مسلّيةٍ فيه، وقد تتالت طبعاتٌ ثلاثٌ له في أسابيع. وعجيبٌ أن الراحل فيما خبرته ليست قصيرةً في مزاولته مهنة الصحافة، ما يجعل قارئه يتوقّع منه التخفّف من المبالغات المفرطة، ومن استخدام النعوت بالغة القدحية ضد من يناهضهم، ومن التزيّد في خلع الأوصاف البطولية المغرقة في المدائحية الدعائية لشخص السيسي، فضلا عن توقّع شيءٍ من الدقة عند الحديث عن وقائع لها أكثر من مصدر، بعضها رسمي حكومي بالمناسبة، فلا يليق بصحافي، تسلّم رئاسة تحرير أكثر من صحيفة، وأُعطي عضوية مجلس أمناء جائزة الصحافة العربية في دبي، أن يتوسّل لغة اتهامية، من دون استنادٍ إلى أي تحقيقٍ حكوميٍّ أو صحافي أو فردي، ليُقنع قرّاء كتابه بأن "مليشيات" جماعة الإخوان المسلمين "الإرهابية" كانت السبب في سقوط القتلى في فضّ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، ووقائع أخرى. أما أن تكون "الثورة" في 30 يونيو (2013) التي قوّضت "نظام المرشد" كانت "كبرى لم يعرف لها التاريخ العالمي المعاصر مثيلا"، فهذا مضحك، تماما كما اعتبارها "من أكبر الثورات في التاريخ المعاصر، بل لعلها الأكبر على الإطلاق".
أما بشأن عبد الفتاح السيسي، "رجل الأقدار" و"البطل الشعبي الذي تحوّل رئيسا" والذي "استجاب لنداء الجماهير"، .. إلخ، فزميلنا الراحل كان ممن أقنعوا "الجنرال الشاب ذا العينين الذكيتين" بالترشّح لانتخابات الرئاسة. ومصر، بحسبه، بدأت فصلا جديدا في تاريخها، منذ تولّى هذا الرجل، وهو الشخصية الاستثنائية، بوصف محمد حسنين هيكل، منصب القائد العام، وهو أيضا صاحب نبوءة في توقّع ثورة يناير (وإنْ أخطأ في موعدها)، كما ياسر رزق نفسه صاحب نبوءة، لمّا كتب، في مقال منشور، إبّان رئاسة محمد مرسي، بزوال حكم الإخوان المسلمين خلال عام. ثم عندما يسأل رزق المرشّح السيسي عن برنامجه، يريه الأخير ثلاثة مجلّدات كبرى! وعندما يكتب رزق بسخريةٍ عن مرسي في ملفّ العلاقة مع إثيوبيا، فإن قارئ هذا الكلام لن يستطيع منع نفسِه من استدعاء بؤس أداء السيسي، رئيسا، في ملفّ سد النهضة.
في الوسع أن يسترسل واحدُنا في سرد غرائب في محكيات الراوي العليم، ياسر رزق، رحمه الله، غير أن هذا لا يعني إهمال الكتاب، فهو يستحقّ أن يتناول وقائعَه العارفون والمطلعون من الزملاء المصريين بالتوضيح والتعقيب والتصحيح في المواضع التي احتاجت هذا كله، وهي كثيرة. وقد أعطى الكتاب صاحب هذه السطور معلوماتٍ شائقةً وذات فائدة بشأن تفاصيل أكثر من مشهد وواقعة، في نهار 3 يوليو/ تموز 2013 ومقدّماته مثلا. .. ولعل في هذه الإشارة ما يُقنع بموضوعية السطور أعلاه.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.