"وقت مستقطع" في "وجوه وأماكن"

05 يوليو 2015

سوسن ارشيد وعبد الحكيم قطيفان في "وجوه وأماكن"

+ الخط -
تتوفر المحنة السورية الراهنة على كثيرٍ مما يستنفر الخيال لإنتاج دراما تلفزيونية راقية عنها ومنها، بالإفادة من وقائع دامية في محدلة التمويت المتواصلة في سورية، غير أن الوقت قد يكون مبكراً لذلك، لا سيما إذا ما طولب صناع الدراما وأهلها بأعمال وفيّة، فنياً وإنسانياً وإبداعياً، لثورة الشعب السوري وتغريبته. ولكن، ثمّة الكثير مما يمكن الاقتراب منه في أثناء هذه الثورة، الدرامية أساساً، وقد فعلت ذلك نصوص روائية سورية لم تعد قليلة، فيما بدت الدراما التلفزيونية أكثر حذراً، وأقل انشغالاً بالمسألة كلها، ما يعود إلى حزمة من العوامل المتنوعة، منها المقتضيات غير الهيّنة التي تتعلق أساسا بفن الدراما، والذي يحسب صناعة لها استحقاقاتها المالية والإنتاجية والتسويقية.
يمكن اعتبار مسلسل شيخ المخرجين السوريين، هيثم حقي، (وجوه وأماكن)، من إنتاج شركة ميتافورا، والذي يعرضه، في موسم رمضان الجاري، تلفزيون العربي، عملاً ريادياً، في هذا السياق، وإنْ في البال أننا شاهدنا، في رمضان 2013، مسلسل (سنعود بعد قليل) من بطولة دريد لحام، والذي جاء مشوش الرؤية، ولا وجهة له بشأن الجاري في سورية. ولأنه كذلك، فإن أهمية (وجوه وأماكن) تصبح مضاعفة، بالنظر إلى تشخيصه تفاصيل في المشهد السوري، عشية الثورة وفي شهورها الأولى، بروحية الانحياز الإبداعي والفني أولاً، والأخلاقي والثقافي تالياً، إلى تطلعات السوريين إلى الانعتاق من الاستبداد. وبالنظر إلى أن المسلسل يقدم منظوره هذا بإيقاع حكائي، يتوفر على مقادير وازنة من الجاذبية، ولا سيما وأن ثورة الشعب السوري، وما ووجهت به من رصاص، يحضران فيه أحداثاً متصلة بأبطال العمل، وهم أفراد أسرة متعلمة وميسورة ومن وسط اجتماعي متقدم، بل وتتوازى هذه الوقائع مع تجربة حب شخصية، يجد نفسه فيها رب الأسرة (جمال سليمان) في غضون حياته الزوجية السعيدة، وهي تجربة أتاحت لمشاهد العمل إطلالة على دواخل هذه الشخصية، فيها التأرجح بين الحالة المستجدة وحالته مهندس إلكترونيات هانئاً في زواجه. وبدت هذه التجربة، في نهاية حلقات هذا الجزء من المسلسل، "وقتاً مستقطعاً" في حياة هذا المهندس، التقى مع وقتٍ حرج وحساس وانعطافي في سورية عموماً.
أجادت النجمة يارا صبري في دور الزوجة، المثقفة المتعلمة، وتألقت في التعبير عن الجرح الشخصي الذي أصابها في اقتران زوجها بالشابة الثلاثينية المطلقة الثرية، ابنة ضابط الأمن الفاسد (سوسن أرشيد، عبد الحكيم قطيفان). وأجاد الممثلون الشباب الذين أعطاهم هيثم حقي في هذا العمل فرصة استثنائية لتعريف الجمهور بهم، في مسلسل لافتٍ، سيكون له موقعه الخاص في مسار الدراما التلفزيونية السورية التي راكمت نجاحات مهمة، وكان حقي من أبرز مبدعيها. ونظنه، في تقديمه ثلاث حكايات في أزيد من ثلاثين حلقة، يجمعها مسلسل واحد باسم واحد، يطرح مقترحاً جديداً في العمل التلفزيوني الدرامي، ولا سيما في مواسم رمضان المعتادة. وسورية، أو على الأصح، ناسها بتنوعهم، طبقيا واجتماعيا، وبمختلف أجيالهم وجغرافيات حواضرهم وأريافهم، حاضرة في هذا المسلسل، بثلاثيته، وإن ألزمت الظروف المعلومة فريق العمل على تصويره في خارج سورية، في تركيا، وفي فضاء أقرب إلى المكان السوري.
شاهدنا حلقات (وقت مستقطع) من (وجوه وأماكن)، وقد اكتملت بخروج أبطال الحكاية إلى خارج سورية، ما قد يعد إحالة لها صدقيتها إلى الراهن السوري، حيث الداخل والخارج، والشتات والمنفى، النزوح والتشريد، اللجوء والتهجير، معالم هذا الراهن المدمّى والمأزوم. النخب السورية، الحقوقية والسياسية الوطنية، ذات الخبرة في مختلف الحقول والمناشط، باتت خارج بلدها. ومن باريس، صار أفراد أسرة (وقت مستقطع) يزاولون عيشهم، مقيمين على انحيازهم لقيم الحرية التي يستحقها بلدهم، فيما أهل الاستبداد من رجال السلطة والفساد والتسلط، مرتعشون خائفون، مهزومون. شاهدنا هذه النهاية في عمل تلفزيوني درامي ناجح، موقع باسم مخرج كبير وحاذق، أما الحكاية كلها فلم تنته بعد.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.