وفي الناس المسرّة
تمطرُ السماء بغزارة خلف نافذتي هذا الصباح. ولأني شتوية المزاج، أهرع في العادة إلى الخارج احتفالاً بالمطر الذي يغسل عن الروح ما علق بها من أثقال، غير أنني هذه المرّة لم أفعل، لم يعد انهمار المطر حالةً تستدعي البهجة، أجلسُ متسمّرة أمام الشاشة، وقد التصقتُ بالمدفأة، تُجهش روحي بالبكاء وأنا أتابع مشاهد المهجّرين من أهل غزّة، وهم متروكون في العراء مباشرةً تحت المطر والقصف والجوع والعطش والخوف والعجز، والإحساس المرير بالخذلان من تنكّر أمّةٍ عربيةٍ ليست واحدة، وقد اعتادت المشهد الدامي، وانصرَفت إلى انشغالاتها، مكتفيةً بالدعاء وانتظار معجزةٍ ما تهبط من السماء.
أكرر لنفسي القول إن الاعتياد خيانة، كي لا أقع في المطبّ ذاته، تقول صديقة تدّعي الواقعية "شو بِدنا نعمل أكتر من هيك، طلعنا مظاهرات، ساهمنا في حملات التبرّعات، لسنا واثقين تماماً من وصولها، كتبنا على صفحاتنا في فيسبوك وتوتير، شتمنا الغرب المجرم، أدنّا الأنظمة المتخاذلة، قاطعنا بضائع أجنبية ثبت دعم شركاتها العدو، وبعدين شو بأيدينا نعمله أكتر؟ إحنا بالآخر أفراد والموضوع أكبر منا". لعل فيما تقوله شيئاً من الصحّة، فالأمر أكبر من طاقتنا على إحداث أي تغيير لا توافق عليه القوى العظمى، لذا سنظلّ، رغماً عن أنوفنا، نحتلّ مقاعد المتفرّجين في مسرح العبث هذا، نلوك خيبتنا ونلعن واقعنا ونواصل انتظار غودو الحردان المتواري، وقد أطال الغياب.
حالة قاتلة من العجز تستولي على حواسّي وتنغّص عليّ يومي، وتُحيلني إلى كائنٍ عديم الجدوى، كثير التذمّر والشكوى. ولا أجرؤ على التفكير بالقادم الأجمل، أُخفق في تصوّر ذلك، أي أجملٍ ممكنٍ ترجوه والموت الأسود يفتك بالصغار، ويخلّف من تبقيّن من الأمهات ثكالى حزينات حائرات ضائعات في تيهٍ عظيمٍ لا نهاية له. مشاهد سوريالية مرعبة لا تخطُر على بال عتاة صناع أفلام الرعب. مطلوب منّا ألّا نجفل، وألّا نُغمض أعيننا هلعاً، وأن نتنفّس الصعداء، حين ندرك النهاية السعيدة لفيلمٍ من صنع الخيال، غير أن هذا الفيلم الغزّي المرعب محضُ واقعٍ عصيٍّ على الانتهاء. ثمّة مُخرجٌ أرعن، غادر الكواليس من دون أن يُعطي إشارة النهاية، وترك أبطال الفيلم في حيرةٍ من أمرهم يتخبّطون في أداء مشاهد لا معقولة غير قابلة للفهم أو الإدراك، غير أن الأمور تظلّ معلقةً مبهمة المصير، ما يُحزن القلب المثقل بأصناف الهموم أصلاً.
يقول خبير تنمية بشرية إن السعادة تكمُن في القدرة على صرف الذهن، أن تتحكّم في طريقة تفكيرك، فتُبعد عن رأسك أي أفكارٍ مظلمة، وأن تستبدلها وتلهي نفسك بأفكارٍ مُبهجة، كأن تستدعي ذكرياتٍ جميلة، وتستحضر لحظاتٍ حلوةً عشتَها ذات يوم، تخدع بها نفسك، ولو قليلاً، كي تخفّف عنها كل هذا الوجع المقيم فيها. قد ننجح في ذلك، لو كانت همومُنا شخصية مقدوراً عليها قابلة للحل أو النسيان أو التجاهل، لكن ما نعيشه في هذه اللحظة السوداء مأساة شعبٍ بأكمله، ليس في بلاد الواق والواق، بل في الجوار تماماً، شعبٍ أعزل مسالمٍ عاشق للحياة متمسّك بها، تعرّض على مرأى العالم للقتل والتهجير والتشريد والإبادة، شعبٍ يخصّنا ويهمّنا، تؤلمنا جراحُه، وتحرق قلوبَنا عذاباته. ولعله كان يرى بنا ذات وهمٍ خشبة النجاة التي سيلوذ بها، والسند المتين الذي يحمي ظهره المُشرع للغدر، قبل أن يواجه حقيقة النكران والتخلّي، ثم يأتي بعد كل ذلك الهول من يحاول إقناعنا بأن على الأرض السلام وفي الناس المسرّة، أي سلامٍ وأيّ مسرّة أيها المخدوعون بحتميّة تحقق العدالة التي لفظت أنفاسها.