وعليكم قنطار من "اخرطي"

03 سبتمبر 2014

استعراض لزي فرسان القبائل الليبية التقليدي في مصراته (5سبتمبر/2006/أ.ف.ب)

+ الخط -

لا يوجد بين شعوب العالم مَن يفوقنا، أو يجارينا، نحن العربَ، في التلميح، والترميز، والتلغيز، وربما كان قاموسُنا البلاغي الوحيدَ في العالم الذي يحتوي على مصطلحات من قبيل الطباق، والجناس، والاستعارة، والكناية، والاستعارة المكنية، والالتفات، والترصيع، والمجاز العقلي، والمجاز المُرْسَل، والتورية، ورَدّ العَجُز على الصدر، والأسلوب الحكيم.

ولعل من أجمل تجليات هذه اللغة موضوع "الإحالة" إلى شيء آخر غير المذكور حرفياً. مثلاً، حينما يَلْمَحُ أبناءُ السوق في سورية فريقاً من الأشخاص المختصين بإلحاق الأذى بالناس، كرجال المخابرات، أو عناصر دورية تموينية، أو موظفي الدخل بمديرية المالية، سرعان ما يصيحون "عباية"! فيهبّ الجميع لإخفاء بضاعتهم، أو إغلاق دكاكينهم، أو ترك العمل والتظاهر بأنهم مشغولون بأمور أخرى.

ومن المصطلحات الشائعة في الثقافة العربية مصطلح "الغزو". وإنه لمخطئ مَن يقول إن الغزو يقتصر على الغزو الصليبي، أو المغولي، أو التتري، أو الصهيوني، للبلاد العربية، فالكل يعرف أن المجتمعات العربية الجاهلية كانت تتعرض للغزو من أقوام أخرى، كالروم والفرس بشكل شبه دائم، وفي أوقات الفراغ تتبادل القبائلُ العربية الغزوَ فيما بينها! وتُطلقُ القبيلةُ المنتصرةُ أيدي رجالها لإعمال القتل والسلب والنهب والاغتصاب والسبي بحق القبيلة المغزوة، المُستَضْعَفة، مثلما نرى، الآن، في غزوات الجيش السوري وميليشيا حزب الله المدن السورية. 

ولعل من الطريف أن نذكر أن عنترة بن شداد لم يكن ليتجاوز حالة العبودية التي كان أسيرَها، لولا شدةُ بأسه في رد "الغزو" عن بني عبس! وحينما تحرر لم يعد يجد وقتاً كافياً لتلبية الاستغاثات التي كانت تطرقُ سمعه من زملائه (الأحرار)، لأنه منهمك على الدوام في رد الغزو، وكأنه مُعَيَّنٌ بوظيفة "رَدَّاد الغزو المناوب"!

ومن الهَتْفات الظريفة التي يتداولُها الناسُ في غزواتهم، أو في معارك رد غزوات الآخرين، قول أحدهم: أنا أخوكِ يا نزهة! وفيها، كما تلاحظون، توضيح لأولي الألباب، أن الرجل، في المجتمع العربي، هو المسؤول عن حماية "حريمه"، وبالأخص المدام "نزهة"! وفي أثناء توزيع الاختصاصات، من قبل العرب البهاليل على شعوبهم، أعطيت المرأة الحق بالاستغاثة، أو إطلاق الولاويل، أو (الرَّقْع بالصوت) والشهق وقول عبارة (يا لهوتي) كما عبر عنه نجيب الريحاني في فيلم غزل البنات:

عشانك انتي أنكوي بالنار وألقح جتتي
وأدخل جهنم وأنشوي بالنار وأقول يا لهوتي!

في العصر الحديث، غزا صدام حسين الكويت، بعد انتهاء حالة التغازي بينه وبين جماعة "الفقيه" الإيراني. وعلى إثر ذلك، غزت أميركا العراق، وصُرفت مليارات الدولارات، من أجل إعادة الوضع في المنطقة على ما كان عليه قبل الغزو، وكأنك يا أبا زيت ما غزيت!

من نافل القول إن دول منطقتنا لا يحميها من الغزو شيء، مثلما يحميها إقامةُ عقد سياسي واجتماعي، يقضي بتداول السلطة ديمقراطياً فيها. لذلك، سأحاول البقاء في عالم "الإمتاع والمؤانسة"، وأخبر حضراتكم أن سكان بادية الشام كانوا، حتى زمان ليس بعيداً، يغزون المدن والقرى، ويسلبون أهلها خيراتهم، وقد صور المخرج الكبير، هيثم حقي، العملية في مسلسل "هجرة القلوب إلى القلوب" الذي كتبه عبد النبي حجازي سنة (1991).

وكان أهل إحدى القرى التي تعرضت للغزو يستخدمون كلمة (اخرطي) في حالة التعجب. وفي ذات غزوة، قال رئيس الجماعة الغازية لأهل القرية والبنادق موجهة إلى صدورهم:

- فرضنا عليكم عشرين قنطاراً من القمح، وعشرين قنطاراً من العدس، وعشرين قنطاراً من الشعير.
تعجب واحدٌ من أهل القرية، وقال: اخرطي!
فتقدم منه أحد الغزاة، ووضع البندقية في صدره، وقال له:

- يا وَلْ، شنو هاذي "اخرطي"؟
ارتبك الرجل، وقال: هي نوع من الحلوى.
فانفرجت أسارير الغازي، وأضاف: 

- وعليكم قنطار من "اخرطي"!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...