"وشهقت القرية بالسرّ" ... حين تتحقّق الدهشة
تحلّق الكاتبة الفلسطينية الأردنية تبارك الياسين في فضاء الإبداع إلى أقصى علوّ ممكن، وتنبئ عن موهبة كبيرة وبراعة استثنائية في منجزها القصصي وأعمالها التشكيلية بالمجمل. وتتألق، على نحو خاص، في روايتها "وشهقت القرية بالسر"، بعنوان فرعي "قرية الشقلوب"، الصادرة عن منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2021، والحائزة جائزة الإبداع من وزارة الثقافة الأردنية عام 2022. رواية صادمة جماليا على غير صعيد، لا يتجاوز عدد صفحاتها 125 صفحة من الإبداع الخالص، سواء على مستوى اللغه المكثفة، جزلة التعبير، المتخفّفه بالمطلق من فائض الثرثرة، أو من حيث البناء الروائي محكم البنيان.
تأخذنا الروائية، عبر نصّها البديع، في رحلة تمزج ما بين الغرائبية والواقعية والتاريخية، شائقة مثيرة، وتتجول بنا بكل رشاقة وتمرّس في الأزمنة من خلال سرد حكاية قرية "الشقلوب"، الفلسطينية المتخيلة، غير أنها تحكي تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، وتوثق لشتات الفلسطيني من قراه ومدنه في نكبة 1948، بلغةٍ مختلفةٍ عمّا عهدناه في أدب النكبة، لغة ثريّة خفيضة الإيقاع، محمّلة بالاستعارات البليغة، خالية من الشعارات والبكائيات، لكن أثرها في النفس أكبر تأثيرا بمراحل من اللغه المباشرة.
عصابات العدو الصهيوني، في الرواية، ضباعٌ قبيحةٌ شرسةٌ تترصّد بالقرى الفلسطينية الوادعة، وتتحيّن الفرصة للانقضاض والفتك بها. أما أبطال المقاومة فهم صيّادون مهرة، يقنصون، في جولاتهم الليلية، الضباع المفترسة دونما ضجيج كبير. لجأت تبارك إلى حيلة روائية بالغة الذكاء، حين جعلت الصحافية "رنا" تبتاع مخطوطةً عتيقةً في أثناء تجوالها في وسط البلد في عمّان، من عجوزٍ غامضٍ رثّ الهيئة، كان يحاول بيعها إلى صاحب الكشك الذي لم يُعره أي اهتمام.
تتخلّى الروائية، فيما بعد، عن دور الساردة العليمة، وتتوارى بخفّة الكائن التي تحتمل! وتفتح نوافذ السرد الحرّ المتدفّق، من خلال صوت رجب، الشخصية المحورية في الرواية. يتداعى الفتى الفلسطني، ابن قرية الشقلوب، في سردٍ ساحرٍ أخّاذ، ويقدّم لنا شخصيات العمل الشيخ الفراج، صاحب السلطة المطلقة في القرية، فهو المعلم في الكتاتيب، والطبيب الذي يداوي المرضى، والشيخ الذي يقرأ الأدعية والرقى، ويطرد الجن الذي جمع في شخصيته التناقضات كلها، الأستاذ الكنعاني المشغول بالتاريخ والأساطير التي تؤكّد رسوخ الفلسطيني في الأرض وأحقيّته بها، الراعي بشير العاشق المتيّم، سلمى البنت الجميلة المظلومة، الوالد الشهيد الذي ظلّ مجهول المصير حتى نهاية الرواية، الأم الصابرة، الجدّة وحكاياتها المستمدّة من الموروث الشعبي، مثل حكايتي الشاطر حسن والعنزة التي أكل الغول أولادها، وقصة الحب بين سلمى والراعي بشير، وغيرها من تفاصيل كثيرة، تعود إلى زمنٍ جميلٍ، ذهب بلا عودة.
وفي توظيفٍ موفّق للأسطورة، تضيف تبارك الياسين بعدا عميقا للنصّ، من خلال حكاية رع إيل وابنته لايلا التي باركتها الإلهة عشتروت في عشقها أيبو، وتضحيتها بهذا العشق ورضوخها لطلب ملك "أريحو" الزواج منها، شريطة أن يساعد والدها الملك في القضاء على الغُزاة العبرانيين، ومشاركتها في الدفاع عن أسوار مدينتها شكيم (نابلس)، حتى قتلت فداءً للحبيب، فحوّلتها الآلهة إلى شجرة زيتون، وحوّلت حبيبها إلى عصفور ملازم لها... جميلٌ ورشيق هذا التنقّل بين الأزمنة، يسجّل للكاتبة التي تمكّنت من مقاليد النص، في مزيج بالغ التركيب رغم سلاسته، ما يبشّر بروائية على قدرٍ من الخطورة، مزوّدة بمحصلةٍ معرفيةٍ لا يُستهان به ومخيّلة جامحة مجنونة متمرّدة وموهبة غير اعتيادية في النبش في أعماق النفس الإنسانية بمهارة طبيبٍ نفسيٍّ متمكّن من أدواته، سيما في لجوئها إلى منطقة الحلم مساحة حرّة للبوح المنفلت، غير أنه يؤدّي بالنتيجة إلى إيقاع منضبط، يخدم النص الجميل بالغ النضوج ... رواية "وشهقت بالسر.." عملٌ مكتمل عناصر الدهشة. أنصح بقراءته واكتشاف معنى الجمال المحتشد في هذه الرواية المختلفة. هنيئا لتبارك الياسين هذا المنجز الكبير، وهنيئا لنا بها.