ورد لزكريا تامر
بلغ أستاذنا الأديب الكبير، زكريا تامر، قبل أيام، الثانيةَ والتسعين من عمره، وهذه مناسبة لنهنئه، ونحتفي به. لم أستخدم كلمة "أستاذنا" هنا للإشادة، أو التقدير، مع أنه يستحقهما، ولكن قصّاصين سوريين كثيرين، وغيرهم، تأثروا به، بمعنى تتلمذوا على أدبه واتخذوه أستاذاً، وهناك كتّاب حاولوا تقليده، فأنتجوا نسخاً "تايوانية" من أعماله السهلة الممتنعة.
أول لقاء جمعني بصاحب هذه القامة الإبداعية العالية كان في سنة 2002، حينما أقام المركز الفرنسي للدراسات العربية في دمشق ندوة عن القصة القصيرة في سورية، شارك فيها قصّاصون من ثلاثة أجيال، كنتُ، يومئذ، من الجيل الأوسط. ومنذ اللحظة الأولى للقائه، فوجئت بكمية التواضع التي يمتلكها هذا المبدع الذي كتب، ابتداءً من الستينيات، قصصاً مختلفة في أسلوبها عن كل القصص السورية التي أنتجت منذ أيام علي خلقي وفؤاد الشايب، واستمرّ هذا التميز طويلاً، حتى إننا نستطيع أن نؤكّد، الآن، على فرادته في القصة السورية، ونضيف أنه تميّز، كذلك، في الكتابة الساخرة، فكانت له زاوية ساخرة يومية، بعنوان "المهماز"، وطبعت دار رياض الريس عدة مجموعات له.
يبدو زكريا تامر، في إبداعه القصصي، قرينَ الفرزدق الذي قيل إنه يكتُب الشعر كما لو أنه يقدّ من صخر. زكريا، وهو الذي عمل في صباه حدّاداً، يصهر المادة الأولية للقصة في الكير، ويبرّدها، ثم يعالجها بالمطرقة، والإزميل، والمبرد، حتى تظهر للعيان في أبهى حللها. وهذا يأتي، كما أزعم، من أمور ثلاثة: أولها الموهبة الكبيرة، وثانيها الأناة، حتى إن الأديب الراحل وليد إخلاصي أخبرنا، في إحدى استراحات تلك الندوة، أن زكريا تامر يعيد كتابة نصه القصصي خمسين مرّة قبل أن ينشره! وثالثها المشي ساعاتٍ طويلة في شوارع دمشق، وخلال المشي يستمر عمل تيار الوعي، فيُنجز مراجعةً لقصته في ذهنه، قبل أن يعود إلى البيت ويكتبها على الورق، ويعود لتبييضها بعد المشية التالية .. ومما يُضحك أنني، وعلى الرغم من أني أصغره بأكثر من عشرين سنة، لم أصمد في المشي برفقته سوى نصف ساعة، وكنت أظنّه ارتوى من المشي، ولكن، في الصباح، أخبرني الصديق نيروز مالك أنه التقاه بعدما تركتُه، وبقي يمشي معه حتى الصباح!
تدور، بين حين وآخر، نقاشات في أهمية أدب زكريا تامر. في سنة 2009، مثلاً، صرّح أستاذ جامعي سوري، في ندوة في أحد مدرّجات جامعة دمشق، إن زكريا تامر قاص، ولكنه ليس أديباً! استغربنا، يومئذ، هذا المنطق الغريب، ورحنا ننسج على منواله ساخرين، قائلين إن حنا مينة روائي فقط، وليس أديباً، وسعد الله ونوس مسرحي فقط .. وفي اللقاء نفسه، زعم متأدّب آخر أن ما يكتبه زكريا تامر لا ينتمي إلى جنس القصة القصيرة، بالمعنى النقدي للكلمة. وفي سنة 2012، كنّا في جلسة ضمّت مجموعة من الأدباء السوريين، ووضع أحدُهم زكريا تامر على الطاولة، وشرع يحكي عليه، كما يقول أهل الشام، شَرَوي غَرَوي، ويشيد بكتّاب آخرين، مثل سعيد حورانية وحسيب كيالي .. في معرض الردّ على هذا التطاول غير المسوّغ، قدّم أحد الحاضرين رأياً سرعان ما شاركتُه فيه، أن الحريّ بنا أن نعتبر ما كتبه زكريا تامر، خلال عمره المديد، تجربةً بين التجارب، ولوناً بين الألوان، ثم إن تجربة الرجل، الآن، اكتملت، فلو كان في طوْر البدايات، لربما أخذ برأيك، ورأي غيرك، وعدّل، وطوّر، وشطب، وأضاف. وأما أنك تحب كتّاباً آخرين، فلا يمنحك هذا الحقّ في الاستهتار بزكريا تامر، والإقلال من شأنه، وتاريخه. ولعلمك، عندما يكون لدى الشعوب المتقدّمة كاتب بوزنه، أو حتى أقلّ منه، لا تتوقف عن الإشادة به، ودراسة أعماله، ومقارنتها مع أعمال آخرين، هذا إذا لم يحوّلوا بيته إلى متحف.