وداع "هنا لندن"... أين المفاجأة؟
لم تكترث النوستالجيات التي أفضى بها أصحابُها في منصّات وسائل التواصل الاجتماعي بشأن ما فيهم عن إذاعة بي بي سي عربي، فور تلقّيهم نبأ موت هذه الإذاعة عن 84 عاما، بما دفع أهل القرار في الهيئة البريطانية الرفيعة إلى إنهاء هذه الخدمة الإذاعية. وهذا من عاديّ الأمور، فالواحدُ منا عند فقدانه حاجةً عزيزةً، وعظيمةَ الشأن لديه، سيما إذا أقامت في نفسِه زمنا، لن يحفل بما يخرُج عن إحساسِه الخاص بهذا الفقد. غير أن قسطا من استغراب الأمر يطرأ في الحال، مصدرُه أن كثيرين من أصحاب هذه النوستالجيات لم يأتوا على ما قد أصاب المستوى العام لأداء الإذاعة العريقة، التي يخصّنا منها بثّها باللغة العربية، منذ سنوات، أو ربما عقود، وقد صارت على غير السويّة التي كانت عليها إبّان إعجابٍ سابقٍ فينا بها. ولواحدِنا أن يضيف سببا آخر للاستهجان مبعثُه السؤال إن كان الاستماع إلى الإذاعات، بشكلٍ عام، ما زال على سَعَته في عقود ما قبل طفرات الفضائيات وثورة الرقميات وسطوة الهواتف الذكية وزوابع السوشيال ميديا، ما قد يجيز سؤالا، بشأن الذين أشعرونا بجسامة ما خسروه بعد إنهاء "بي بي سي" خدمتها الإذاعية بالعربية، ما إذا كانوا حقّا يواظبون على الإنصات إلى تقارير هذه الإذاعة وأخبارها، ويُؤثِرونها على القنوات والفضائيات العربية الشهيرة التي لا تزيّد في القول إنها أزاحت، منذ أكثر من عقدين على الأقل، الإذاعة البريطانية العتيدة عن مكانتها، وإنْ في قناعة صاحب هذه الكلمات إن هذه الإذاعة فقدت الجزء الأكبر من جمهورها العربي قبل هذه الإزاحة بسنوات، لأسبابٍ ليس من العسير التأشير إليها، وما أكثرها.
أما أن "هنا لندن"، وهذه تسميةٌ شائعة (ومناسِبة) للإذاعة التي غادرت الفضاء الإعلامي التقليدي، يُخبرنا القائمون عليها إنها ستتحوّل مسموعةً في الفضاء الرقمي (الديجيتال)، بكيفيةٍ لسنا ندري تفاصيلها بعد، فلا نعرف إن كان الذين أمطرونا بفائض شغفهم بها سينعطفون إليها هناك، ولن يقطعوا الوصال معها، طالما أن ولعَهم بها، بماضٍ كانت عليه خصوصا، على النحو الذي عرّفونا به، وهم يُزجون مرثيات التحسّر على فقدهم ما فقدوا.
ما بادرت إليه هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وتعلّقَ بوقف بثّ الإذاعة بعشر لغات، منها العربية، وإلغاء مئات الوظائف، يوفّر، على ما أعلنت، 28.5 مليون جنيه إسترليني. والمؤكّد أنهم هناك أدركوا أن هدرا كبيرا يجب أن يتوقّف، فلا مردودَ إعلاميا وثقافيا وسياسيا يتأتّى من تخصيص هذه الإذاعات لجماهير تلك اللغات، ويستدعي تحمّل هذا الإنفاق الكبير، الأمر الذي لم يكن على هذا النحو في عقودٍ مضت، لمّا كان القرار أن بريطانيا العظمى في 1938 في حاجةٍ إلى أن تتوجّه إلى المستمعين العرب بما يتعطّشون إليه من معرفة الأخبار وما يستجدّ في العالم، وإنْ بتلويناتٍ تزيد وتنخفض في هذا المقام وذاك، في أجواء منافساتٍ كبرى في العالم على التأثير هنا وهناك في الكون المترامي الأطراف، وكان العرب في الأثناء تحت احتلالاتٍ متنوّعة، ويبحثون عن سبلٍ يعبُرون منها إلى الحداثة في عالمٍ يتقدّم صناعيا وتقنيا .. وإعلاميا.
استطاعت بي بي سي عربي أن تخطف أسماع العرب عقودا ليست قليلةً، وإلى عهدٍ قريب، ومن ذلك أنه لا يغيب عن ذاكرة صاحب هذه المقالة ما كنّا عليه، في الأسرة، كما الجيران وجيرانهم، على سماع أخبار لندن إبّان الحرب العدوانية على لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1982، فكان الخبر اليقين هناك في عُرفنا، وكانت التقارير الجذّابة وبأصواتٍ رخيمةٍ تشدّنا، ولم يكن بيننا من يقعُ على هوىً أو غرضٍ ما في هذا الموضع من هذا الخبر أو ذاك. وأظنّ أن حال إعجابنا، نحن العرب، جمهورها العام، بما كانت تيسّره لنا "إذاعة لندن"، كما تسميةٌ شعبية لها، استمرّ سنواتٍ بعد هذا، ربما إلى ما بعد حرب الخليج الثانية بقليل، حتى إذا اقتربنا من الألفية الثالثة بات الازورار عن أخبار لندن وتقاريرها يتّسع، لحزمةٍ من الأسباب، منها ما صار عليه أداء الإذاعة الشهيرة من ترهّل، ورتابةٍ، وتقليدية، وغياب روح الجدّة والمنافسة، ومنها ما صارت تزدحم به أجواء العرب من تلفزاتٍ بلا عدد، وقدرة فضائياتٍ أنشأوها على المنافسة العالمية، ومنها، كي لا ننسى، ما بات ملحوظا في ما تُعلمنا به الإذاعة من مقادير تحيّز ظاهرة، وتعميةٍ على غير شأن وقضية ..
خربت بي بي سي عربي منذ سنوات، ولم تعد لها تلك المنزلة إيّاها، بل في الوسع الزعم إنها ماتت منذ زمن، .. أين المفاجأة في إعلان موتها إذن؟