وداع المختطفين في غزّة

02 ديسمبر 2023

الإسرائيلية ميا ليمبرغ وكلبها يسلّمهما مقاتلون من حماس للصليب الأحمر (28/11/2023/الأناضول)

+ الخط -

يبدو المختطفون الإسرائيليون في قطاع غزة لدى "حماس" (وغيرها)، وهم يعودون إلى بيوتهم في أثناء الهدنة، كما لو أنهم يعودون من نزهةٍ طويلة، فهم بكامل صحّتهم، ليس على أجسادهم أي أثر للتعذيب أو للتعرّض للضرب أو للإساءة أو حتى للجوع. وجوههم ضاحكة، ما يعني أن فترة إقامتهم في مقرّ اختطافهم لم تكن سيئة، ولم يُعاملوا بعنف أو بإساءة أو بانتقام نتيجة الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد قطاع غزّة وسكّانه وضد المقاومة فيه؛ والأكثر إثارة للدهشة الودّ الذي يُظهره هؤلاء لخاطفيهم الملثّمين، فهم يمازحونهم ويودّعونهم بمودّة لافتة، ويتكلّمون معهم بعض الكلمات العربية، ويردّد بعضهم آيات قصيرة من القرآن الكريم، ويحرص بعضهم على الطلب من الخاطفين الانتباه لأنفسهم ويتمنّون لهم السلامة، ويأمل بعضهم بعودة اللقاء. وليس الحديث هنا عن الأطفال والنساء فقط، بل حتى عن المختطفين من الشباب والرجال (غير إسرائيليين). يدلّ هذا على أن المقاومين تصرّفوا مع المختطفين بكامل الالتزام بالمعاهدات والشروط الإنسانية في فترات الحروب، متجاوزين بذلك حتى الاعتبارات الإسلامية التي تعتبر أسرى الحروب من النساء سبايا؛ فلا يبدو أن واحدة من المخطوفات قد تعرّضت لأي نوع من العنف الجنسي والجسدي، ولا يظهر في كل الفيديوهات التي نشرت أي مظهر للغضب أو للعدائية بين المختطفين وخاطفيهم. بل العكس تماما، يبدو هؤلاء كما لو أنهم كانوا في ضيافة فيها كثير من الكرم والمودّة والمرح.

تدحض هذه الفيديوهات كل الدعاية الصهيونية والغربية عن همجية المقاومة الفلسطينية و"حماس" وعن ارتكاباتها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وعما قيل عن قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وتعريتهن، وعن كل الفظائع التي ادّعى الصهاينة أن مقاتلي "حماس" ارتكبوها في عملية طوفان الأقصى. وعلينا أن نتذكّر دائما أن الطيران الإسرائيلي قتل (بالخطأ كما قالوا) إسرائيليين عديدين ممن كانوا في الحفلة الموسيقية التي قيل إن المقاومين استهدفوها، وجرى تحميلهم في الميديا العالمية مسؤولية موت كثيرين ممن كانوا في الحفلة، ونسبت إليهم ارتكاب فظائع تبين لاحقا أنها غير حقيقية في أسرع عملية تبنٍّ للتلفيق والكذب، كما لو أن الأمر كان مرتّبا ومجهّزا من قبل، حيث لم تمض 24 ساعة على عملية طوفان الأقصى، حتى كانت وسائل الإعلام العالمية كلها تقريبا تنشر صورا وفيديوهات عن الذبح والقتل والاغتصاب والهتك، من دون أن يسأل أحد كيف تم تصوير ذلك كله وتوثيقه في قلب العملية المفاجئة؟

كثرت في فترة الهدنة أصوات عربية قالت إن تبادل الأسرى والمختطفين لا يستحقّ كل هذه التضحيات، ولا الثمن الباهظ الذي دفعه أهل غزّة، وقد يكون في هذا الكلام كثير من الصواب، فحياة البشر أثمن من كل القضايا. لكن هذه مجرّد نظرية نقولها نحن الآمنون. أما المحاصرون والأسرى والممنوعون من العيش الطبيعي، والفاقدون أرضهم وبيوتهم وأوطانهم، فقد يكون لهم رأي آخر، ومستعدّون لدفع ثمن باهظ مقابل الإحساس بقليل من الحرية. وبغضّ النظر عن هذا كله، وبغضّ النظر عن الحقّ في حرية الرأي والتعبير والمشاركة وطرح الأفكار والنقاش، فإن ما حدَث قد حدَث، وقد تكون "طوفان الأقصى"، بكل ما تبعها وما نتج عنها، من أهم مفاصل القضية الفلسطينية، وسوف تغيّر في شكل القضية، سواء لصالحها أو ضدّها. لا أحد يعرف، فكل ما يطرح ويقال مجرّد تخمينات مبنيّة على راهنٍ يتغير كل يوم، أو على أمنياتٍ ورغباتٍ لا وزن لها في سوق السياسة الدولية.

ما يمكن التعويل عليه حاليا هو السلوك الذي قدّمته المقاومة في تعاملها مع المختطفين (ولا علاقة للمقاومة، في رأيي، بالقيادة السياسية لحركة حماس خارج غزّة)، هذا السلوك الذي يفضح أكاذيب الكيان والغرب وادّعاءاتهما في تبرير الحرب المجنونة على غزّة، ويفضح الادّعاءات الكاذبة عن الفلسطينيين والعرب، وعن المقاومة الشعبية الحقيقية التي تولد من رحم القضية لا من خارجها. هذا السلوك الذي يجب تعميمه والشغل عليه من النشطاء العرب ليكون الصورة البديلة عما تتبنّاه الميديا الغربية وتبرّر به خطاب الكراهية الحالي ضد الفلسطينيين والعرب.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.