وداعاً بهاء الطوْد
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
وسط سيل الأخبار المرعبة والصور الدامية التي تأتينا من غزة المحاصرة في الأرض والسماء، عبر قصف عاتٍ من الآلة الإسرائيلية المتعطّشة للقتل المجّاني، والمُسرفة في غيّها، حين لم تجد من يردعها، يغادر الحياة الكاتب المغربي بهاء الدين الطوْد، ومقامه في طنجة، والذي عرف بمنزعه إلى المعرفة والحوارات الثقافية، وأيضا بكرمه النادر ورحابته في بيته الواسع.
ذات يوم، كما سرد على لسانه، كان الناقد المصري الراحل جابر عصفور مستضافا في بيته. وفي الليل، سأله إن كان لديه كتاب يقرأه، فأجاب بهاء: عندي هذا المخطوط، يسعدني أن تعطيني رأيك فيه. ... وفي الصباح، كان عصفور متفاجئا من جمال ما قرأ. وعندها، ولدت رواية بهاء الأولى "البعيدون" عام 1990 التي أثارت حين صدورها ردود أفعال مشجّعة، فتوالت طبعاتها (إحداها عن دار الهلال القاهرية)، وترجمت إلى الإسبانية.
تبدأ الرواية سردها في مقهى في مدريد وتنتهي في مقهى في مدينة القصر الكبير المغربية. ويتداخل فيها التخييل الذاتي بثيمة الغربة، عن طريق بطلها إدريس. وبين الفضاءين، الأوروبي والمغربي، تنتقل الرواية، مستعيدةً محطات دراسية وأخرى قرائية. أثارت عند بعض قرّائها السؤال الذي طرح يوما على الطيّب صالح، إن كان بطل روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، مصطفى سعيد، هو الطيّب نفسه أم مجرد ظلّ له. وقد طرح سؤال إن كان إدريس بطل "البعيدون" هو بهاء الدين الطوْد أم ظلٌّ له، وذلك لأن الروايتين تدوران في عوالم الغربية وتخوضان مغامرات مختلفة، وتصفان هوس الشباب ونزقه وطيشه وحماسته وعنفوانه في بلدان الحرية. يمكن أن أضيف إليهما كذلك روايتي توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" وسهيل إدريس "الحي اللاتيني"، وطبعا رواية طه حسين "أديب". يوحي الكاتب في هذه الروايات للقارئ بأنه يتخفّى خلف أسماء مستعارة، نظرا إلى النزوع البيوغرافي للسرد واقترابه من ذات السارد.
ألحق بهاء الطوْد رواية "البعيدون" بعد سنوات طويلة بروايةٍ لا تقلّ جمالا "أبو حيّان في طنجة" (2010)، تستحضر علاقة مقارنة بين أبي حيان التوحيدي ومحمد شكري، حيث يلتقيان في فندق يُحتجز فيه التوحيدي، الذي يثير شكوك السلطات الإسبانية ثم المغربية بسبب وجوده في زمنٍ غير زمنه. ويدور بين شكري والتوحيدي حوارٌ معرفيٌّ أخّاذ. أجاد الطوْد حياكته، ولا بد أنه أقام مع أبي حيان زمنا، وهو يقرأه قبل أن يجعله يقيم مع شكري في الرواية. أذكر حين أهداني بهاء رحمه الله هذه الرواية في لقاء جمعنا في البحرين، وبعد أن أنهيتُها أهديْتُها لصديقي الشاعر العُماني، عوض اللويهي، الذي جعلها موضوع إحدى حلقات برنامج "كتاب أعجبني" الذي يعدّه في الإذاعة العُمانية، ويقدّمه الإعلامي والقاص سليمان المعمري.
سنكتشف في الرواية أيضا أن علاقة كانت لأبي حيان كانت بالمغرب في القرن الخامس الهجري عن طريق الجارية نهاوند التي أهداها له الوزير ابن العميد، فجاء أبو حيان هاربا من انتقام ابن العميد، بعد تأليفه كتاب "مثالب الوزيرين". وفي أثناء انتقاله من بغداد إلى الأندلس، كانت مدينة أصيلة نقطة الانطلاق، كما تسرد الرواية في متخيّلها، حيث سينام أبو حيان في كهف عدة قرون، ليستيقظ في الزمن الذي نعيش. وهنا تستفيد الرواية من قصة أصحاب الكهف التي سبق أن أفاد منها توفيق الحكيم في تأليفه إحدى مسرحياته.
بهاء الطود يدلّ في الروايتين على نفسه مثقفا شغوفا بالقراءة والجو الثقافي النخبوي. كتب الشاعر عبد الرحيم الخصار "كان الطود صديقا لكبار الكتاب العرب والمغاربة، يتوافدون باستمرار على دارته التي خصّص الحيز الأكبر منها لاستقبال ضيوفه، يتجاذبون معه أطراف الحديث والصداقة، هو المولع بالنقاشات الثقافية، ويتقاسم تجاربه وخبرته في الحياة مع جلّاسه". ولأنه شغوفٌ بالحوارية الثقافية، يمكنه في جلساته أن يحدّثك عن شخصيات عربية وغربية ثقافية وفنية التقاها وناقشها. سرد، مرّة، على مسامعي نقاشا بينه وبين الكاتب الإسباني خوان غويتسولو الذي يتشجّع فيه لأن تسود اللهجة المغربية في مقابل الفصحى حتى في الكتابة، يردّ عليه الطود بأن اللهجات "العربية" جزء من الفصحى الجامعة، لغة الكتابة، والأكثر أناقة ورقيا في مقابل اللهجات الأميل إلى التعبير الشفوي السيّار.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية