وثيقة الصين الأوكرانية: الاتجاه غرباً
حين تُقدّم دولةٌ ما وثيقة تتعلق بالأمن الإقليمي أو الدولي، فإن بنودها المكتوبة تعبّر عمّا تريده لذاتها بشكل غير مكتوب. الوثيقة الصينية من أجل السلام في أوكرانيا، ببنودها الـ12، نموذج واضح في ذلك. نادراً ما ترفع بكين أوراقا مدوّنة في سبيل مسألةٍ ما. يتعلق الأمر أساساً بالطبيعة المجتمعية للمفهوم السياسي الصيني، وأيضاً بالتطورات التي تلت مرحلة الزعيم ماو تسي تونغ، في سبعينيات القرن الماضي. في الشكل والسياسة، ظلّت الصين وفيّة لمبدئها الشيوعي. أما في الاقتصاد فتحوّلت إلى واحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم في غضون أربعة عقود، على خلفية انخراطها المباشر بالسوق الحرّ، أي النموذج الاقتصادي الغربي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وإفرازاته التي أدّت إلى تحوّل الدولار الأميركي إلى العملة الأساسية في الكوكب.
قبلت الصين بذلك كله، بل إن احتياطها النقدي من العملات الأجنبية، قائم على الدولار بشكل أساسي، وفاق الـ3.182 تريليونات دولار في يناير/ كانون الثاني الماضي. وهي أكبر دولة بهذا الاحتياطي في العالم. الصين نفسها، وعلى الرغم من النقاشات عن اعتماد عملات غير الدولار في التعاملات الاقتصادية، لا يناسبها تراجع قوة الدولار، في حال نجحت مساعي أي دولةٍ أو مجموعة اقتصادية بذلك. تدرك بكين أن "طريق الحرير" وتمدّدها في القارّة الأفريقية خصوصاً، وتعاملها مع دول عدة، قائم على العملة الأميركية. وهو ما تطرّقت إليه في البند الـ11 من وثيقتها بما يتعلق بأوكرانيا، والتي جاء فيها: "تعتبر بكين أن على جميع الأطراف الحفاظ بجدّية على النظام الاقتصادي العالمي الحالي، ومعارضة استخدام الاقتصاد العالمي كأداة أو سلاح لأغراض سياسية". صحيحٌ أن الشقّ الثاني من البند موجّه إلى الولايات المتحدة لقدرتها على استخدام الدولار سلاحاً فعّالاً في مسألة فرض العقوبات، لكن الشقّ الأول هو الأهم بالنسبة للصين، فأي تبدّل في تركيبة النظام العالمي، سواء بتوسّع استخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية، أو حتى ازدياد نفوذ الدولار عالمياً، سيكبح نموّها الاقتصادي، وسيكبّدها أكلافاً هائلة في التصنيع والإنتاج وسلسلة التوريد، وصولاً إلى المبيعات.
ومقارنةً مع روسيا، تبدو الصين، وبسعيها إلى الانخراط الاقتصادي أكثر مع الغرب، عكس حليفتها. وفي الأساس، الصين تتصرّف على قاعدة "الزبون دائماً على حق"، فيما يتعلق بتصريف بضائعها، بينما تصرّفت روسيا وفق تهديد الأوروبيين بقطع الطاقة عنهم في حال أبدوا رفضاً لها. والبضائع الصينية متعدّدة ومتشعّبة ولا تنتهي، وقطار ييوو الصيني ـ لندن البريطانية، البالغ طوله أكثر من 12 ألف كيلومتر، شاهد على ذلك. أما الروس، فبضائعهم أكثر محدودية، مثل الطاقة والأسمدة والحبوب والسلاح. لبكين مصلحة أيضاً في إطعام 1.5 مليار فم، وهي نسبة تفوق بنحو عشرة أضعاف عدد سكان روسيا الـ145 مليوناً. قد يكون الروس جاهزين، وفق قولهم، للانعزال عن العالم، مع رفع شعار "عالم متعدّد الأقطاب". الأمر ليس كذلك بالنسبة للصينيين، فقد توفي أكثر من 30 مليون شخص، إبّان "الثورة الثقافية" (1966 ـ 1976)، التي أرادها الزعيم ماو أن تضع حدّاً للجوع في بلاده، خصوصاً بعد مجاعة 1959 ـ 1961. لم تنجح الخطة، في وقتٍ كان عدد السكان يتراوح بين نحو 730 مليوناً في عام 1966 و930 مليوناً في 1976. لا تريد بكين أي انقطاع مع الأسواق العالمية، الغربية تحديداً، كي لا يتكرّر مشهد الستينيات والسبعينيات.
لفهم حقيقة الوثيقة الصينية، لا يكفي النظر إلى بنودها السياسية فقط، التي لم تطابق بكثير منها توجهات روسيا. الصين تقرّ باستقلال أوكرانيا وسيادتها، وفقاً لحدود 1991، كي تسمع تايوان، زعيمة "أشباه الموصلات"، وأيضاً الولايات المتحدة، صدى الإعلان الصيني. هنا يبقى السؤال، إلى أي مدىً ستواصل الصين الاصطفاف مع روسيا؟ إلى المدى الذي يغلب فيه حبّ اليد على حبّ الإسوارة.