وإذا طبّعتم فاستتروا

28 اغسطس 2021
+ الخط -

لا أفهم سرّ البهجة التي صبغت بيان وزارة الزراعة الأردنية الذي زفّ بشرى توقيع صفقةٍ مع الجانب الإسرائيلي، عمادها منح المنتجات الزراعية الأردنية "أفضليةً" في الأسواق الإسرائيلية خلال سنة الراحة اليهودية (السبتية) الممتدة حتى سبتمبر/ أيلول من العام المقبل. ولولا قليلٌ من فلول حياءٍ، لترادف البيان مع وصلة رقص لفيفي عبدة مع باقة من زغاريد مبتذلة.
والحال أن هذا البيان الذي لا يخلو من "وقاحة"، صدم الشارع الأردني الذي اعتاد على التعتيم الرسمي المفرط لدى تناول كل ما يتعلّق بالأنشطة الدبلوماسية والتجارية المشتركة مع إسرائيل، سيما لدى زيارات مسؤولين إسرائيليين الأردن، فعلى الأغلب لا تتم تغطية الزيارة إعلاميًا على نحو كامل، بل يُكتفى بأخبار مقتضبة تظهر الاجتماع ذاته وتنتزع منه البروتوكولات الرسمية، كالاستقبال والتوديع و"العناق". أما تجاريًّا فيندُر أن تصدر معلومات عن صفقات واتفاقيات مشتركة، اللهم باستثناء صفقة الغاز التي قوبلت، ولا تزال، بغضبٍ شعبي عارم شعاره "غاز العدوّ احتلال"، تبعتها صفقة "المياه" أخيرًا، التي تتضمّن بيع جزء من مياه بحيرة طبريا للأردن، عبر تسييلها في نهر الأردن، فأضيف شعارٌ جديد مفاده: "مياه العدوّ احتلال" (على افتراض أن الغاز غازهم والمياه مياههم، ذلك أن الأردنيين إنما يشترون غازهم ومياههم اللذين سطت عليهما إسرائيل).
في كل هذا وذاك، لم يكن الأردنيون على اطّلاع بما يدور خلف كواليس هذه التشابكات المعقدة من العلاقات الأردنية الإسرائيلية، لأنهم باختصار ما زالوا على رفضهم التطبيع مع الكيان الصهيوني، على الرغم من توقعاتهم بأن ثمّة كثيراً من جبل الجليد الغاطس في مياه هذه العلاقة التي لا يبرز منها سوى حدث صاعق من حين إلى آخر، على غرار حادثة مقتل أردنيين على يدي حارس السفارة الإسرائيلية قبل عامين. وعادة ما تتم التورية على هذه الأحداث وكنسها بسرعة، لأن الحكومة الأردنية تعرف جيدًا تداعياتها في الشارع الكاره كل ما له صلة بإسرائيل.
يمكن القول، باختصار، إن الأردن الرسمي كان يتعامل، في ما يخصّ العلاقة مع إسرائيل، على قاعدة "وإذا طبّعتم فاستتروا"، أو هكذا كان يظن الشعب، في ما يشبه اتفاقًا غير معلن بين الطرفين، غير أن بيان وزارة الزراعة أخيرًا، وقبله صفقة "المياه"، غيّرا المعادلة، وبدا أن ثمة خروجًا على الاتفاق غير المعلن، وهو ما يدعو إلى التساؤل عن الأسباب خلف إشهار الفضيحة على الملأ، بل والتغنّي بها كأنها إنجاز مهول أو "فتح مبين". وهنا سرعان ما يستحضر الشارع الأردني تصريحاتٍ مماثلة صادرة عن "حديثي التطبيع" الذين بزّوا أساتذتهم في سرعة الهرولة، وبلغ بهم الأمر حدّ الوقوف العلني إلى جانب إسرائيل في حربها على غزّة، وتحميل حركة حماس مسؤولية كل ما جرى في العدوان الصهيوني، فهل ساورت الغيرة حكومة الأردن، مثلًا، فقرّرت أن تبزّ "تلاميذ التطبيع" لتشعرهم أنها ستظلّ "أستاذًا"؟
غير أن ما يفطر القلب في إعلان وزارة الزراعة الأردنية، فوق ما ذكرناه، يتمثّل أيضًا بفضيحةٍ أخرى، قوامها الفشل العميق في كل ما له علاقة بالزراعة وإسناد المزارع الأردني، بدليل الفقر المدقع الذي يضرب مناطق الأغوار بمزارعيه، فجاء الإعلان الذي يحمل "البشارة" دليل إدانةٍ للسياسات المتخبّطة للحكومات الأردنية وفشل مشاريعها التنموية، ما جعلها تلجأ إلى إسرائيل لإنقاذها زراعيًّا، فبدا البيان كأنه "عريضة تسوّل" من طرف ضعيف إلى طرفٍ قويّ ومهيمن، قادر على أن يتوقف مزارعوه سنة عن العمل والإنتاج، من دون أن يهتز وضعهم الاقتصادي قدر أنملة، بينما يتم تعويض فائض كسلهم وإجازاتهم الطويلة من المزارع الأردني الذي يكدّ ويشقى بلا جدوى.
وقبل هذا وذاك، كان حريًّا بالوزارة العتيدة أن تستمزج رأي المزارع الأردني، قبل أن توقع مثل هذه الصفقة المذلّة، إن كان يقبل تصدير عرقه وتعبه إلى بطن عدوّه، وأكاد أجزم واثقًا أنه سيمزّق أوراق الاتفاقية قبل أن يقرأها حتّى .. وعلى الوزارة أن تحمد الله إن اكتفى المزارع بتمزيق الأوراق فقط.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.