هيا بنا نمشِ
اليوم والخطوة تثقل، ورسائل أعضاء جسمك تصل إليك تباعاً أنك قد بدأت بالوهن، تكتشف أن كل الذين اتهمتهم بالبخل سابقاً، حين كنت تراهم يقطعون الطرقات مشياً على الأقدام قد كانوا على حق، وإن كانوا يُضمرون توفير أجرة مركبةٍ زهيدة، بسبب بخلهم حقاً، أو بسبب عدم توفّر تلك الأجرة لديهم من الأساس. ولكنك اليوم تكتشف كم عاشوا أصحّاء حتى النهاية، وكيف تمتّعوا بقوام ممشوق بلا انبعاجات خلفية أو أمامية، على الرغم من تقدّمهم في العمر، وتباطؤ عمليات الهدم والبناء في أجسامهم، لكنهم كسروا القاعدة، لأنهم رفعوا ببساطة شعار "هيا بنا نمشِ".
توفيت خالتي بعدما اقتربت من عامها التسعين. وفي حياتها الطويلة لم تصل إلى طبيب فقط، بل كانت ترى أن زيارة المرأة الطبيب معيبة، وأن الأطباء لا يفعلون شيئاً سوى أنهم ينهبون جيوب المرضى، وداوت كل أوجاعها بشرب مغلي بذور اليانسون، ودهان زيت الزيتون. ولكنها كانت تمارس رياضة المشي مجبرة ثم تحولت إلى هاوية ومحبّة للمشي، ووجدت أن شوارع المدينة العريقة هي المكان الذي يليق بخطواتها، وتأمل العالم المحبّب إلى قلبها هو المتعة التي يجب ألا تفرّط بها بالانتقال في سيارات أجرة، علاوة على أنها كانت ترى أن السائقين جشعون، ويتقاضون أجرة كبيرة مقابل نقلك إلى مسافة قصيرة. وهكذا قرّرت أن تقاطعهم أيضاً ما لم تكن مضطرّة للانتقال من مدينتها المركزية إلى مدينة صغيرة بعيدة، لكي تزور والديها، وشقيقتها. وهكذا كنا نُمنى بزيارة الخالة التي تصرّ على أن تصطحب أحدنا معها في رحلة عودتها إلى مدينتها، وهي تعد أمي أنها سوف تعيد ابنها أو ابنتها في الزيارة المقبلة التي ستكون بعد أسبوع على الأكثر.
وكان لا بد من أن يحلّ دوري، لكي تسحبني خالتي من يدي، وتضعني في حجرها بجوار سائق سيارة عتيقة، وتظل صامتةً حتى يعلن السائق وصولنا إلى مركز المدينة، فتنقدُه أجرته وتسحبني، لتبدأ رحلة العذاب بالنسبة لي. أما خالتي فقد اعتادت عليها، وكنت أنظر إلى وجهها لكي أرى أي تعبيرٍ قد ينبئني بشعورها وهي "تغزل بساقيها" حسب تعبير أبي، فهي تمشي بسرعة، ولا تلوي على شيء، وعلى السائر بجوارها أن يركض ويلهث خلفها بعد سيره إلى جوارها دقائق في بداية الرحلة، ولكنه بعد ذلك، لبؤسه، سوف يضطر لكي يركض لكي يلحق بخطوتها، فهي تقطع المسافة بين مركز المدينة وبيتها الذي يقع في أقصاها في دقائق معدودة. وهذه الدقائق هي أقل مما تقطعه سيارة أجرة أخرى، لو اضطرّت خالتي أن تستقلها، وكأن الخالة تكون في سباقٍ مع نفسها، وسيارة أجرة متخيّلة قد يستنزف سائقها نقودها منها. وحين تنظر إلي في لمحة خاطفة، من المؤكّد أنها تتخيّل عراكاً سيحدُث بينها وبين السائق، وهو يطالب بأجرة مضاعفة مقابل نقل هذه الطفلة معها، فكانت تسرع في السير أكثر، ونصل إلى بيتها فتجفّف عرقاً وهمياً، فيما أكون قد اغتسلت بعرقي، ولم يتوقف لهاثي.
في اليوم العالمي للمشي، ومع الدعوة المتكرّرة للمشي من الأطباء لأهميته البالغة، أتذكّر خالتي التي مارست هذه الرياضة التي أتكاسل عنها اليوم، على الرغم من منافعها، ومن أن موعد الاحتفال باليوم العالمي للمشي يختلف من بلد إلى آخر، إلا أنه تم في فلسطين يوم الجمعة الفائت، وكانت الدعوة إلى إحيائه مرتبطة بما تتعرّض له مدينة القدس من تدنيس للمقدسات وقبور الأموات، فخرج هواة رياضة المشي ليكتشفوا جمال ربوع بلادهم أيضاً، وآملين في اكتساب الصحة ولياقة، إذا ما اتبعوا توصيات منظمة الصحة العالمية بضرورة المشي نصف ساعة للبالغين يومياً، وساعة للأطفال يومياً. وفي حال القيام بالمشي الصحّي حسب قواعده، وحسب توصيات الأطباء، فأنت سوف تكسب تحسّناً ملحوظاً في وتيرة التنفس ونبضات القلب وتقوي عضلته، وتتخلص من الدهون الداخلية والخارجية، وربما تصبح لك مآرب أخرى، مثل التي كانت لخالتي رحمة الله عليها.