المخطّط المنسي: هل سعت أونروا إلى تهجير فلسطينيي قطاع غزّة؟

18 ديسمبر 2023

عائلات فلسطينية تلجأ إلى المركز اللوجستي لـ"أونروا" في رفح (13/12/2023/الأناضول)

+ الخط -

يتعرّض قطاع غزّة منذ ما يزيد على 70 يوماً لعدوان يشنه الاحتلال الإسرائيلي بدعم سياسي دولي غربي تحديداً، مُخلفاً مآسي إنسانية غير مسبوقة، ناتجة عن سياسات عسكرية مُمنهجة وواسعة النطاق والأثر، تمثلت في التقتيل والتدمير وتضييق الحصار المفروض أصلاً على القطاع منذ العام 2007، وهو ما يطرح السؤال الذي لا يَبلى في ظلّ مُتتالية المعاناة الإنسانية خلال النزاعات العسكرية عن مدى فاعلية منظومة القانون الدولي، تحديداً القانون الدولي الإنساني، وكذلك المؤسسات الدولية الفاعلة في المجال الإنساني، ومنها: وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين (أونروا).
شكّلت سرعة استجابة الوكالة الأممية للطلب/ الإنذار الذي وجّهه جيش الاحتلال في 13 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 إلى أهالي شمال قطاع غزّة بالتوجّه نحو جنوبه، والتي اتّخذت إجراءات الإخلاء الفوري لمقارّها في الشمال، ونقل عملياتها وطواقمها إلى الجنوب وتجهيز المخيّمات للنازحين، الأمر الذي اعتُبر تشجيعاً للنزوح نحو الجنوب، وهو ما أثار حالة من التوجس عن الدور الذي تلعبه أو قد تلعبه الوكالة حالياً ومستقبلاً في تسهيل تنفيذ المخطّط الإسرائيلي الذي جرى الحديث عنه خلال هذا العدوان، والمُتمثل بدفع فلسطينيي القطاع إلى الجنوب تمهيداً لتهجيرهم وإعادة توطينهم في صحراء سيناء. وفيما يُعيد طرح هذا المخطّط القديم الجديد إلى الذاكرة مشاريع التوطين السابقة مثل: مشروع ليفي أشكول عام 1965 ومشروع يغال آلون عام 1967، فهو يستدعي كذلك البحث في أوراق "أونروا" ومخطّطها الرائد في تهجير لاجئي قطاع غزّة وإعادة توطينهم في سيناء منذ خمسينيات القرن الماضي.

لماذا أُنشئت وكالة أونروا؟
أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 302 الصادر عام 1949 وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا - UNURWA)، والتي بدأت عملها الفعلي في الأول من مايو/ أيار عام 1950، حيث جاء تشكيلها في أعقاب وقوع النكبة عام 1948 التي كان من أعتى آثارها إحالة الفلسطينيين إلى مجموعة من اللاجئين المُهجّرين والمشتّتين ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة والدول المجاورة، قُدِر عددهم حينئذ، وفقاً لإحصائية الأمم المتحدة بـ 750.000 لاجئ.

تضاعف عدد سكّان قطاع غزّة بعد وقوع النكبة من 80,000 إلى 280,000 نسمة، وهو ما شكل تحدّياً حقيقياً لوكالة أونروا

اضطلعت الوكالة بمهمات "المساعدة والحماية [...] للاجئي فلسطين في الأردن ولبنان وسورية والأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى أن يتم التوصل إلى حل لمعاناتهم"، إذ تشمل هذه المساعدات من بين أمور أخرى: توفير الرعاية الصحية والتعليم والإغاثة والاستجابة الطارئة خلال النزاعات المسلحة. وتُشكّل مجموعة من المبادئ ركائز عمل الوكالة والمتمثلة بمراعاة مبادئ الإنسانية وعدم التحيّز والحيادية والاستقلالية، إذ يُفترض أن تنفذ الوكالة مهماتها بعيداً عن شبهات التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الآراء السياسية ... إلخ، أو الانحياز إلى طرف دون آخر خلال النزاعات العسكرية، بحيث تمارس عملها استجابة للحاجات الإنسانية، بعيداً عن أيّة أهداف سياسية أو اقتصادية أو عسكرية لأي طرف.
أما بالنسبة للمتلقين لهذه الخدمات والمساعدات فهم اللاجئون الفلسطينيون الذين تُعرّفهم الوكالة بأنهم "الأشخاص الذين كانت فلسطين هي مكان إقامتهم الطبيعي خلال الفترة بين يونيو/ حزيران 1946 ومايو/ أيار 1948، والذين فقدوا منازلهم ومورد رزقهم نتيجة حرب عام 1948"، وقد استبعد فلسطينيون كثيرون وجدوا خارج نطاق المحدّدات الزمانية والمكانية الواردة في التعريف من فئة اللاجئين، ما نجم عنه تقليص عددهم الفعلي، وبالتالي، عدم انطباق قرار الجمعية العامة رقم 194 الصادر عام 1948 عليهم، والذي يمنح اللاجئين خيار العودة إلى ممتلكاتهم وديارهم أو الحصول على التعويض المناسب عنها في حال عدم الرغبة بالعودة.

مشروع اقتصادي تنموي أم تهجير فإعادة توطين؟
تضاعف عدد سكّان قطاع غزّة بعد وقوع النكبة من 80,000 إلى 280,000 نسمة، وهو ما شكل تحدّياً حقيقياً لوكالة أونروا التي وجدت نفسها مسؤولة عن تقديم مساعدات وخدمات إنسانية لحوالى مائتي ألف لاجئ موّزعين على ثمانية مخيمات أنشئت لاستقبالهم. في وقت وجد فيه اللاجئون أنفسهم في ظروف معيشية صعبة، بعدما هُجّروا قسراً من مدنهم وقراهم تاركين وراءهم جميع ممتلكاتهم، فيما اعتُبروا من وجهة نظر الوكالة عبئاً خدماتياً ضخماً تُرك على عاتقها مهمة الإحاطة به.

من أبرز المخاطر التي تضمّنها المشروع في الخمسينيات، المُنطلقات النظرية التي أُطّرت أونروا بموجبها قضية اللاجئين

في تقريرها الذي يغطي الفترة للعامين 1951 - 1952، تشير الوكالة إلى هدف رئيسي آخر موكل إليها (إلى جانب تقديم الخدمات الإنسانية) يتمثل بتنفيذ مشروع اقتصادي، هدفه تحسين حياة اللاجئين تمهيداً لتحقيق الاستقلال المادي لهم، بحيث تشطب أسماؤهم من قوائم الوكالة للمحتاجين. وبالتالي، تخفيف العبء الخدماتي والمالي عن "أونروا". وتحت هذه الذريعة، وضعت أسس مشروع اقتصادي تنموي، وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة، يهدف إلى استصلاح وزراعة بعض أراضي سيناء، من خلال نقل المياه العذبة من نهر النيل من القاهرة عبر قنوات فرعية إلى سيناء لتوفير المياه اللازمة للزراعة في ظلّ ندرة المياه الجوفية، على أن يضطلع بمهمة تنفيذه ما يقارب 12 ألف أسرة فلسطينية يتم نقلها من قطاع غزّة إلى سيناء. 
تبلور هذا المشروع  مع تعيين التكنوقراط الأميركي والمستشار الاقتصادي للإدارة الأميركية في مشروع مارشال، جون بلاندفورد، في منصب مدير الوكالة للأعوام (1951-1953)، الذي عمل على تحييد العنصر السياسي المُوجِد لقضية اللاجئين والتعامل معها على أنها "مشكلة" تقنية تحتاج إلى معالجة اقتصادية، على فرض أنّ تحسين الظروف الحياتية وتحقيق الرفاه الاقتصادي للاجئين سيُنهي المشكلة، والتي كانت تتضاعف، بطبيعة الحال، نتيجة الزيادة السكانية المطردة للاجئين، واستحالة احتواء الاحتياجات الإنسانية المتعاظمة، حتى مع تخصيص الميزانيّات الضخمة لها.
ومن أبرز المخاطر التي تضمّنها المشروع، فضلاً عن إعادة توطين الفلسطينيين خارج فلسطين، المُنطلقات النظرية التي أُطّرت بموجبها قضية اللاجئين، فهي، أولاً، تلغي السبب السياسي للقضية، أي التهجير والاحتلال. وثانياً، تُشيِّئ الفلسطينيين، فهو مشروع متجاوز إرادة الشعب الفلسطيني وحقه بالعودة وتقرير المصير، إذ ينقلهم من مكان إلى آخر كيفما يشاء، من دون أي اعتبار لإرادتهم أو تطلّعاتهم. وبذلك يكون جوهر المشروع امتداداً للروح الاستعمارية التي تسكن منظومة الأمم المتحدة ابتداءً من وثيقتها التأسيسية - الميثاق الذي قام مثلاً بتنظيم إدارة "الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي" وإيجاد نظام "الوصاية"، حيث اعتبر الدول القائمة بهذه المهمّة حاملة "للأمانة المقدسة"، فالمستعمِر المتنوّر موكلٌ إليه هذه الأمانة، كونه أكثر تحضراً ودرايةً بمصلحة الشعوب المُستعمَرة، ناقصة الأهلية التي لم تصل إلى النضوج الحضاري الكافي والمؤهل لها لتقرير مصيرها، وهو (الميثاق) إنما يُناقض في ذلك أهم مبادئه (تحوّل لاحقاً إلى حق قانوني) وهو تقرير المصير، على الرغم من إقراره هذا المبدأ لكل الشعوب، فضلاً عن أنّه يتنكّر لأهم مقاصد الأمم المتحدة التي تُعنى بتعزيز واحترام حقوق الإنسان [الشعوب].

مضى التعاون الأممي الأميركي المصري في تنفيذ المشروع حتى عام 1955 مُغيّباً الفلسطينيين بشكل كامل في كلّ مراحله

هبّة 1955 تُنهي المُخطط
مضى التعاون الأممي الأميركي المصري في تنفيذ المشروع حتى عام 1955 مُغيّباً الفلسطينيين بشكل كامل في كلّ مراحله، إلا أنّ المشروع جوبه بحراك شعبي فلسطيني واسع في قطاع غزّة، تجلّت فيه إرادة الفلسطينيين الرافضة مشروع التهجير وإعادة التوطين باعتباره التفافاً على قضية اللاجئين وإنهاءً لها. 
انطلقت مسيرات شعبية واسعة في مارس/ آذار عام 1955 في قطاع غزّة شملت جميع الأطياف السياسية المكوّنة للمجتمع الغزّي من شيوعيين وإسلاميين ومستقلين، شهدت على إثرها تأسيس جسم سياسي جديد متمثل بالهيئة الوطنية التي أشرفت على تنظيم الاحتجاجات الشعبية وتوجيهها للحفاظ على زخمها، كما أصبحت الناطقة باسم الغزّيين وممثلة لهم أمام السلطات المصرية التي تولت إدارة القطاع منذ 1948.  
وعلى الرغم من ردّة الفعل العنيفة التي أبدتها السلطات المصرية (أحد أطراف المشروع) في مواجهة الغزّيين، حيث لاحقت المتظاهرين وسجنتهم، فقد شهد شهر يونيو/ حزيران عام 1955 تحوّلاً مهماً في موقفها تجاه الرفض الشعبي الواسع لمشروع التوطين، وذلك بعد مقتل عديد من الجنود المصريين بسبب الهجوم الإسرائيلي على معسكر عسكري مصري في قطاع غزّة، لتبدأ نقطة التحوّل بالاستجابة لمطالب المتظاهرين، وأهمّها التراجع عن مشروع تهجير فلسطينيي قطاع غزّة وإعادة توطينهم في سيناء.

الفلسطينيون الذين ينزفون دماً الآن في قطاع غزّة هم أحفاد أولئك الذين رفضوا مُخطط التهجير

ومن أهم ما طرحته هذه الهبّة على الطاولة السياسية الإقليمية والدولية تأكيدها على حضور الشخصية الفلسطينية التي لا يمكن تجاهلها وتغييبها في المسائل التي تخصّ القضية الفلسطينية، وهي شخصية لا تلبث إلا أن تُعلن عن نفسها في كلّ حين، فالفلسطينيون الذين ينزفون دماً الآن في قطاع غزّة، هم أحفاد أولئك الذين رفضوا مُخطط التهجير وهتفوا يوماً غاضبين "كتبوا مشروع سيناء بالحبر، سنمحو مشروع سيناء بالدم".

ختاما
تعاملت الأمم المتحدة منذ النكبة، أعواما عديدة، مع قضية فلسطين على أنّها "مشكلة إنسانية" سعت إلى احتوائها من خلال تصميم المشاريع الاقتصادية، فالمنظمة الدولية لم تعترف بوجود شعب فلسطيني له كينونة مادية ومعنوية إلا عام 1969 أي بعد ما يقارب 20 عاماً من وقوع نكبته، فيما انتُزع هذا الاعتراف في ظلّ معطيات وتوكيدات فرضها النضال الفلسطيني، بالتزامن مع وجود مناخ عالمي داعم لحركات الشعوب في تحرّرها من الاستعمار. وعليه، هل تريد هذه المؤسّسات الدولية من خلال مساهمتها في تسهيل تنفيذ مشروع التهجير المُعلن عنه أخيرا، إحالة الشعب الفلسطيني، مرّة أخرى، إلى مجموعة بشرية بحاجة دائمة إلى معونات ومساعدات إنسانية، مُحطِمَة بذلك كيانيته الفاعلة المُطالِبَة بحقوقه، وفي مقدمها العودة وتقرير المصير؟