هل تحلو الحياة بعد الستّين؟
دائماً كنت لا ألتفت إلى العمر، عمري، خصوصاً في مسألة السعادة أو عدمها، وهذا إذا وصلنا إلى تعريفٍ يكاد يقرّبنا من السعادة، أي سعادة كانت، حتى وإن رأينا سرب حمامٍ فرحان يحلّق في السماء في ساعة المغارب، وليس علينا أيّ ديون لأحد، وبنينا قبرَنا وتفضّل علينا حارس المقابر بزراعة صبّارتين مرّة واحدة، فأزهرت إحداهما زهوراً جميلةً لكم حلمتُ بها في بيتي، فكدتُ أرقص من السعادة بجوار مقبرتي التي لم أنسَ أن أكتب على شاهدها "وما تدري نفسٌ بأيّ أرض تموت"... ورأيت هناك يمامةً تحطّ قريباً من وقفتي، فقلت ما كل تلك الرسائل وأنا الذي لم أهتم بأمر أيّ مقبرةٍ لي، إلّا بعد الستين بستّ سنوات.
هل السعادة في أن تهدأ الروح بجوار يماماتها وترى صبّارتك قبل أن تموت مزهرة، هل السعادة في ذلك الطمع للسفر، أي سفر، حتى داخل ذاتك فقط، وإلا لما كتبت على الشاهد "وما تدري نفسٌ بأيّ أرض تموت"، وكأنك، ومن طرفٍ خفيٍّ ولئيم أيضاً، تحنّ إلى مكان ما هناك، تركته مجهّلاً، وهو مكان قبرك، وكأنك تفتح قوس المكان إلى ما لا تدركه من سعادة، هناك، في أي بلد، فهل مثلاً الدرويش في طوافه يبحث عن سعادةٍ ما، سواء في معيّة الله وأفلاكه أو في معيّة الطبيعة والخلاء واللطف الذي يأتيه على جناح الفضل والكرم، أو نعمة وبركة المصادفات في كونه المترامي الذي لا يعرف تدجين الطيور في أقفاصها، فما بالك بدرويشٍ ما، يتقمّصني أحياناً، يعشق دائما ذلك الفرح الذي هناك، وهل هناك أفراحٌ تخايل الدراويش في بلادنا حتى بعد الستين؟
حينما يسند المرء بعد الستين ظهره لحائط، أي حائط، حتى حائط الكتب، حتى حائط تأمّل خطواته التي أوشكت أن تكون هيّنة أو على قدر حيله وحيلته، فيبدأ في تذكّر النجوم والسؤال عنها، ولماذا هي غائبة وقد كانت من قبلُ لا تغيب، أيام كان يصعَد النخيل ويأتي بالبلح ويفرَح بالعوْم ويطير فوق سور أيّ حديقة.
حينما يسند المرء بعد الستّين ظهره لحائطٍ ويتأمّل عراك الحمام على المكان، مكانها، مكان أن تضع بيضتَها، وعلى القشّ المتناثر أيضاً، كي تبني عشّها، وتتباهى به بجوار قريباتها وهي تتنمّر للقمر.
بعد الستين، نحاول أن نشبع من تأمّل الكائنات الصغيرة التي فاتنا أن نتأمّلها ونحن نبحث عن أوهامنا في الكتابة والكتب، أو حتى نبحثُ عن أحقادنا الصغيرة، هل الأحقاد الصغيرة تسنُدنا، كي نمشي، كي تضحك علينا حينما نسنُد ظهرنا لحائط ونكسر القشّ الهيّن كي نرميه من ثقوب الأعشاش، فيناور الحمام على تلك القشات بلؤم، كي يبني أعشاشَه، هل الأمل عشّ، وهل السعادة مجرّد وهم بعشٍ تعبنا في جمع قشّاته، وبعد الستين جلسنا هكذا نمدّ الحمام بالقشّ؟
أعجبُ من بعيدٍ لتلك العمارات المرتفعة، وأبتسم وأعجب جدّاً بسعادة لحنان الشمس مع عظامي ولعطف اليمام لحالي، أنا الذي كم أحببتُ رشاقة اليمام، ولكن دائما في اليمام صعوبة الصحبة والتدجين، عكس الحمام، فهل "قرصة اليمام الواعرة" من الإنسان في بدء الخليقة قرصة واعرة في الروح، فظلّ على حرصه نفسه ومخاوف الاقتراب منه، من الإنسان عامة.
إذاً، لماذا دائماً أرى اليمام سعيداً ببعده، بعدما فارق، من قرونٍ بعيدةٍ، ذلك الإنسان الذي دائماً يخطّط لسعاداته من آلاف السنوات فوق رقعة شطرنج الحرب، كي يبتلع بلاداً بيمامها وحديدها وسفنها، ويجلس هناك سعيداً على مائدة التفاوض كي يجدّد له الحزب والإعلام فترة رئاسة سادسة أو حتى لمدى الحياة، أما تكفي الستين فقط كي يجلس المرءُ فوق رقعة شطرنج روحه، كي يحسب ما خسره وما هو في انتظاره.
صباحاً، دخلتُ إلى حماماتي كي أصعد السطح وأحاول جاهداً أن ألحق بأوّل الشمس، وإذا بي أرى يمامةً يكاد أن يكتمل ريشُها وسط الحمام جالسةً في خوف، ولا أعرف كيف دخلت، أدخلتها إلى قفصٍ واسعٍ، من حمامات السطح، كي لا يقتلها الحمام الكبير، وخرجتُ كي ألحق الشمس. كانت السماء هناك رحبةً وأكثر من يمامةٍ هناك تحوم والطيورالأخرى بدأت في الطيران، وسطوح البيوت على همومها نفسها، والشمس قد وصلت وحطّت على الأسلاك، ودخلت بقوة إلى الحمام، هل صعدت السطوح وكانت غائمةً بعد، ثم أشرقت فجأة، لا أعرف؟
الشمس حلوةٌ حينما يسند الواحد ظهره ويتذكّر هفواته أو زلّاته أو حتى خطاياه، هل يكفّر الواحد عن خطاياه بتأمّل الشمس وبإمداد الحمام بالقشّ الرقيق كمساعدة على بناء الأعشاش والألفة. فجأة، ومن بين الأسلاك، سمعت صخباً جميلاً في ذلك القفص الذي ركنت فيه اليمامة، وجدت حمامة القفص تطعم اليمامة والشمس هناك تبارك الاثنين بمحبّتها.