هل الدين في خطر؟

26 اغسطس 2022

(نجا مهداوي)

+ الخط -

لعلّ حادث الاعتداء على الروائي الهندي البريطاني، سلمان رشدي، في نيويورك أخيرا، فرصة أخرى للنقاش في حرية المعتقد وحرية التعبير. وبدلاً من أن يكون نقمة على الثقافة التي ننتمي إليها، كما يراه كثيرون، لعله يُعيد ترتيب القيم التي تؤطر مجتمعاتنا في المنطقة العربية، لننظر في سياق الحرّيات الدينية والتعبيرية والسلوكية. إذ لم يأت الدين من أجل إنقاذ الإنسان من العبث الوجودي، أو الضّياع النفسي وغياب المعنى فقط، بل بشكل أكبر من أجل تأطير الإنسانيّة لتعود إلى الأصل، وهو منطق العقل والسّلوك المنظّم، لنبذ شريعة الغاب. جاء الدين ليمنح الإنسان دليلاً عاماً يخفّف من جشعه وأنانيته وتعصّبه ضد الآخر. وليمنح الناس انتماء أوسع من العائلة والقبيلة، الانتماء الإنساني إلى المعتقد نفسه الذي يحثّ على التسامح مع باقي المعتقدات. وفي ذلك الانتماء الإنساني ككل، بدعم من القيم التي جاءت بها الأديان.

لم يأت الدين من أجل كسر الإنسان، بل من أجل إنقاذ إنسانيّته. وسبّ شخص ما معتقدات لا يؤمن بها قد يكون تحرّراً وتفريغاً له، لكنه يمسّ بالآخرين الذين يؤمنون بهذه المعتقدات. قد يكون التعبير عن الرّأي حقا يجب ألّا يُمسّ، ولكن حرّية المعتقد أيضاً حقّ، ويجب ألّا تُمسّ. والأول حين ينتقد الدّين وبعض مظاهره، يفعل ضمن إطار حرية التّعبير، لكن متى يُصبح معتدياً على حرية الآخر في التديّن؟ أين الحدود بين حرّية التعبير وحرية المعتقد؟ متى يكون انتقاد الدين ضمن حدود حرية التّعبير والرأي؟ ومتى تُعتبر اعتداء على حق الآخر في المعتقد؟

ليس المعتقد جغرافيا أرضية، أو مسألة مادية واضحة الحدود، بل لعلّه من أكثر المسائل التي اتسعت وضاقت وتنوّعت، ليس بين توجّه وآخر فقط، بل بين فردٍ وآخر. كلّ له فهمه للدين، حتى الذين يتبعون شيخاً معيّناً في مفهومه للدين، ينظرون إلى الدّين بشكل مختلف، بناء على عاملين: التصوّر الديني نفسه عندهم، قبل لقاء الشيخ. وعلاقتهم بالشيخ، وطبيعة الأشخاص الذين هم عليه .. في المحصّلة، نجد أننا أمام أديان متعدّدة، يُنظر إليها من الخارج أنها دين واحد.

إذا كان الأمر على هذا التّعقيد، لماذا نسعى إلى وضع حدود خارجية للدين، على الآخر عدم تجاوزها؟ حسناً، يعود الأمر أوّلاً إلى الوعي واحترام الآخر، والتوازن النّفسي والقيم الأخلاقية التي هي أيضاً غير ثابتة، فشخصٌ متوازنٌ نفسياً، له علاقة سليمة مع المجتمع الذي يشمل الإنسان الأوّل على الأرض، لا المجتمع المكوّن من حيّه ومدرسته وجامِعه أو كنيسته. هذا الشّخص ينتقدها ويتجه إلى عكسها، من باب ممارسة حرّيته، لكنه لا يقتحم مجال الذين لا يزالون يتشبّثون بالمعتقد بالمسّ به، فهذا سيُخلخل السّلم الاجتماعي، ويُسبّب صراعات وفوضى. الممارس لحريته في التّعبير قد لا يتعمّد هذا الأثر، لكنه يتسبّب به عن وعي، خصوصا إذا كان مثقّفاً.

هناك طرق لحماية الآخر بالقانون. كل مدافع عن الرّموز التي انتقدها رشدي، يستشهد بقوانين معاداة السّامية، وهي قوانين متطرّفة، تمنع التّفكير والتّحليل. من غير المعقول إنكار حدوث المحرقة، مع الأدلة المادّية وغير المادية، لكن هدف القوانين ليس حماية حقيقة وجود المحرقة من المشكّكين، بل لمنع التساؤل عن تفاصيلها وحقيقة الأرقام الشّائعة، وذلك لمنع فضح استغلالها من أجل حَلبِ الضمير الغربي المثقل بالذّنب، بسبب سكوته، وبسبب هتلر نفسه، فالصهيونية تحمّل الضّمير الغربي جرائمه لأنه قادم منها، فهل نحن بحاجة إلى حماية الدّين أو لحماية الحق في التدين؟

الدين مستمر لأنّ له وجود عابر للزّمان والمكان، مثل أيّ فكرة أو حقيقة تسافر وحدها ولا أحد يمنع أثرها في زمانٍ أو مكانٍ ما. هناك أديانٌ انتقلت عبر شخصٍ واحد، من قارّة أخرى، في أزمنة ما قبل عصر السّرعة، إلى الآلاف والملايين في مكان آخر بعيد، لم يسمع ربما بالموطن الأصلي. والتديّن، من جهة أخرى، حقّ يجب حمايته، لكن ما هي طرق حمايته؟ هذا سؤالٌ صعب، ونحن نرى القوانين الكثيرة التي تزعم حماية الدّين في بلداننا، تُكيّف فيها العقوبات حسب هوى الأنظمة، وهي في مُجملها اعتداء على حقوق الإنسان كافة، وليس فقط على حقه في التعبير أو التديّن.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج