هشاشةُ أم كلثوم ومجدُها في رواية
أتاح السوري فواز حداد، في روايته "مرسال الغرام" (524 صفحة)، (رياض الريس للنشر والتوزيع، بيروت، 2004، 2017)، لأم كلثوم مساحةً عريضة. وفيما أجرى السارد الراوي محكيّاته عنها، فإنها أيضا تكلّمت بأناها، ورافعت عن نفسها، بشأن اتهامات تُواجَه بها، وقالت كثيرا كاشفا ومثيرا. وفي رواية اللبناني (الفرنسي)، سليم نصيب، "كان صرْحاً من خَيال"، (ترجمها عن الفرنسية بسّام حجّار، ط2، دار العين، القاهرة، 2019)، تناوب صوتا أحمد رامي (الرواية عن عشقه أم كلثوم) والراوي المؤلف الحكي عن أسطورة الغناء العربي. أما المصري محمد بركة، في روايته الصادرة أخيرا "حانة السِّت.." (أقلام عربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2021)، فقد ترك أم كلثوم تروي لكاتبٍ يدوّن ما تقوله عن نفسها، منذ ولادتها حتى مماتها. ولئن كانت لعبةٌ سرديةٌ كهذه جاءَ مثلَها كثيرون، إلا أنك عندما تعرف أن كوكب الشرق "تروي قصّتها المحجوبة"، على ما يفيد عنوانٌ شارحٌ للرواية، فإن شيئا من اليقين يصير لديك أن المغزى من بناء السرد على هذا النحو الإيحاء بمقصد أم كلثوم نفسها أن تنكشف، كما هي، إنسانةً، لا صاحبة مجدٍ في عرش الغناء وحسب. وعندما تقرأ النص فتجد أن المُراد هو هذا، لن يبدو لك أن محمد بركة أراد هجاء أم كلثوم، ولا تأليبا ضدّها، عندما تروي بنفسِها عن مراوغاتها واستبدادها وانتهازيتها، وعن عقدٍ نفسيةٍ واضطراباتٍ جسديةٍ فيها، وإنما أراد القول، مُضمرا ربما، إن أم كلثوم عندما تكون شخصيةً بالغة النصاعة وطهوريةً وملائكيةً لا يكون صعبا أن تصير المغنية التي نعرف، التي وصلت إلى عرشها الباذخ، وإنما ثمّة كثيرٌ غالبتْه هذه المرأة التي افتقدت الإحساس بأنوثتها، وكثيرٌ مما كابدته من قسوة والدها، ومن عوزٍ مبكر، وتنمّر، ثم من مؤامرات صحفيين ومغنّين ومغنيات. وعلى الرغم من هذا كله، احتاجت أن تصنع صورتها بالكيفية التي تريد، فتكون شخصيةً طاغيةً مع ملحّنيها، ومع شاعرها، صاحب 137 أغنية من 283 أغنية لها، أحمد رامي، بل ومخادعةً أيضا معه، وهو الذي عشقها كامرأة، وكان يؤلّف حسب رغبتها، ومع غيره من "عشّاقها" (محمد القصبجي مثلا). وتخوض في سنواتٍ طويلةً "حربا باردة" مع محمد عبد الوهاب.
تُخبر أم كلثوم كاتب قصتها هذه "جاء جيل مختلف، متمرّد، لن يحبّني إلا إذا رأى ضعفي، وتحسّس هشاشتي، وعاين على الطبيعة إنسانيّتي". وفي جملة كهذه، في مطالع "حانة السِّت" (لا أراه عنوانا موفقا تماما)، كأن محمد بركة يوهم قارئه ببراءته، فأم كلثوم، وليس هو، صاحبة هذه اللغة المتعالية، هي المغنية التي تروي عن إذلالها "الولد" (عبد الحليم حافظ من دون تسميته)، التي يصفعُها زوجها، طبيب الأمراض الجلدية (حسن الحفناوي) فتتصل بمكتب الرئيس جمال عبد الناصر، فيأتي أقوى رجل في الشرق الأوسط (بتعبيرِها لا بتعبير بركة) إلى بيتها، ليُفهم الزوج بأنها مصر "وما أظنّ أحدا يجوز له أن يهين مصر". ولمّا كتب صاحب "الفضيحة الإيطالية" (رواية سابقة للمؤلف) أن خيالَه صاغ الوقائع في حياة أم كلثوم "استنادا إلى وقائع مغيّبة وحقائق منسيّة"، فإنه يفيد في محاورةٍ معه بأن مصدرا موثوقا أورد واقعة الصفعة. وللحق، أتقن ما يجوز تسميتُه تواشجا بين المتخيّل والحقيقي في بسط وقائع في 57 مقطعا، ولم ينسرق، مثلا، إلى حكيٍ مهموسٍ عن مثليّتها، بل إنه لمّا أرادها أن تأتي على هذا الكلام، جعلها تسخر منه، وتصف نفسها "راهبة الإسلام وخاتمة المطربين والنساء". هي ذاتها التي ما وفّرت أباها في حكيها، هو الذي تعامل معها كما "تاجر رقيق"، هي التي تقول عن صوتها إنه "يقع في المنطقة الوسطى بين الذكورة والأنوثة"، وعن كفّها إنها "رجوليةٌ ضخمة".
مرّت أمس، 3 فبراير/ شباط، ذكرى وفاة أم كلثوم (1975)، والسطور أعلاه ليست عنها، المغنيّة الأشهر في الشرق، وإنما عمّا أرادته روايةٌ عنها، كاتبها محبٌّ لها، عارفٌ أن النقص الإنساني لا يخرم من عروش مجد العظماء إن أحروزها بمواهبهم وكفاءتهم. وأم كلثوم لم يأت لها المجد الذي تقيم فيه من مكايدتها عبد الوهاب، ولا بزيجتها (أياما؟) من محمود الشريف هربا من عاشقٍ أو أكثر، ولا بغيرةٍ غشيتها تجاه أسمهان، ولا بصداقتها القوية مع عبد الناصر وأنور السادات، ولا بغنائها عن الحب والوله والغرام، وهي التي لم تحبّ، وإنما بصوتها، الفائق القوة والفرادة، والمُطْرِب من قبلُ ومن بعد، وإنْ لا يقول هذا هجّاؤون له (إدوارد سعيد وأنسي الحاج .. إلخ)، ليس منهم أبدا كاتب "حانة السِّت".