16 نوفمبر 2024
هذه الشاحنة الفلسطينية
ذاعت أسماء 19 عربياً خطّطوا ونفّذوا عملية "11 سبتمبر" في نيويورك وواشنطن، كان أشخاص نواتهم الأولى يقيمون في هامبورغ، ويجتمعون فيها، وكانوا سيصيرون 20، لو أن المصري محمد عطا تمكّن من إقناع فلسطينيّ، زميلٍ له، في الانضمام إليهم، لكنه رفض، لا لشيء إلا لأن قضيته ليست هذه، وإنما فلسطين، على ما أخبرنا فيلم سينمائي جيد لمخرج إيرلندي، أُنتج في العام 2004 (أدى السوري زياد عدوان الدور الثانوي لذاك الفلسطيني). تأتي تلك الحادثة إلى البال، فيما تتوالى الأخبار عن قتل أربعة جنود إسرائيليين وإصابة آخرين في عملية فدائية جسورة في القدس المحتلة، بدهسهم بشاحنة. وذلك لأن اقتراف الإرهاب الذي يمارسه دواعش ما بعد "القاعدة" يتوسّل الشاحنات أيضاً، كما فعل اثنان من ذئابه الفالتة، أحدهما في نيس منتصف يوليو/ تموز الماضي، قتل 80 فرنسياً وسائحاً أجنبياً، والآخر في برلين في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قتل 12 شخصاً. فيما ثقافة المقاومة التي تجدّد أساليبها هي التي جعلت الشهيد الفلسطيني، الأسير المحرّر، فادي نائل القنبر (28 عاماً)، يرى الشاحنة وسيلةً ممكنةً تؤكّد للمحتلين الإسرائيليين أنه إذا كان في وسع دولتهم أن تحقّق الأمن لنفسها بأعتى الأسلحة والإمكانات العسكرية وبالقدرات النووية، فإنها تعجز عن أن تضمن الأمن لمستوطنيها وجنودها في الشوارع والحافلات والطرق، طالما أنهم أهدافٌ للرصاص والسكاكين إن تيسّرا، وللشاحنات أيضاً، كما بوغت المحتلون أمس.
ثمّة الإرهاب الصريح الذي لفظه في هامبورغ ذلك الفلسطيني، إبّان "أبدعت" عقول "القاعدة" خطف طائراتٍ واستخدامها في تلك الجريمة المهولة. وثمّة تنويعاتٌ من الإرهاب نفسه، باستخدام الشاحنات، كما فعل التونسيان، محمد لحويج بوهلال (31 عاماً) وأنيس العامري (24 عاماً) في نيس وبرلين. كأن الفلسطيني فادي القنبز يلفظ أيضاً هذا الفعل المقيت، عندما يستخدم شاحنةً في قتل جنود مسلحين ينتسبون إلى جيش الإرهاب الصهيوني، في أرضٍ فلسطينية محتلة، في عمليةٍ تتصف بكل أسباب الشرعية التي أكّدتها وثائق القانون الدولي ومواثيقه، عدا عن أنها تذكّر بأن الحال الفلسطيني، مهما بلغ اليباس السياسي فيه، ومهما علت جبال اليأس في غضونه، لا يعدم إبداعاً من المتاح والميسور، في مزاولة فعل المقاومة والمواجهة مع دولة الاحتلال وعساكرها ومجرميها المستوطنين.
ثمّة مثالٌ فلسطيني رفيع القيمة هنا، في استخدام الشاحنة، وفي الدهس صنيعاً مقاوماً، حتى لا يحصره أحد في الإرهاب الأعمى (لو كان غير أعمى، ماذا عساه سيفعل؟)، على هيئة ما بوغتت به المدينة الفرنسية في احتفال بهيج، والعاصمة الألمانية في أجواء الميلاد في سوقٍ فيها. ... إذن، لتنصرف العصابة الإسرائيلية الحاكمة، برئاسة نتنياهو، وعضوية زميله وزير الحرب المستقدم من مولدافيا، أفيغدور ليبرمان، إلى ضربٍ جديدٍ من القلق، لا تزيحه اتفاقات تطوير صناعات التسلح مع الصين، ولا يلغيه وصول سفير أميركي جديد إليهما قريباً شغوفٍ بالاستيطان. ثمّة ما يفاجئ المذكوريْن من حيث لا يحتسبان، كما أكّد فادي القنبر بديهية هذا الأمر، مهتدياً بكفاح مديد، في مسار المقاومة الفلسطينية، منذ ثورات بعيدة، قبل 1936 وصولاً إلى حالات الخوف الباهظة في أبدان جنود الاحتلال ومستوطنيه من فتاةٍ فلسطينية في حاجز قلندية مثلاً، ومن شاب فلسطيني، اسمه عبد الفتاح الشريف، لن ينسى شعبه استشهاده إعداماً في جريمةٍ واحد من جنود الاحتلال الذين استهدف أنفاراً منهم فادي القنبر أمس دهساً بالشاحنة.
هل ستأخذ عملية الشاحنة في حي استيطاني في القدس المحتلة الإيقاع الفلسطيني العام إلى المطلوب والملحّ، أي إلى إنقاذ الفلسطينيين من وطأة الضجر المهولة من حديث المصالحة البعيدة إياها، ومن السخافة المملة من حديث التنازع إياه بين محمود عباس ومحمد دحلان، ومن الرتابة التافهة في استعطاف المجتمع الدولي؟ ثمّة حزمةٌ من رسائل وفيرة يرميها قدّام الفلسطينيين فادي القنبر بشاحنته، وهي شاحنةٌ تشيح عنا، ولو بعض الوقت، سوء السمعة لتينك الشاحنتين في نيس وبرلين.