هذه الرسائل بين إلياس ومؤنس

15 يوليو 2016
+ الخط -

لم يفعلها أحدٌ، فيما أكاد أجزم، قبل الروائي والقاص الأردني، إلياس فركوح، في جديدِه "رسائلنا ليست مكاتيب" (دار أزمنة ومنشورات مجاز، عمّان، 2016)، لم يسبقه غيره في ما صنع... بادر إلى نشر رسائل صديقه الروائي الأردني الراحل، مؤنس الرزّاز، إليه (بين عامي 1976 و1981) من بغداد وواشنطن وبيرمنغهام وبيروت، مع نشر ردودٍ عليها حديثة، كتبها بين 2013 و2015، فلم يقرأها مؤنس الذي توفي في عام 2002 عن 51 عاماً. ما يعني أن البعد التوثيقي ليس من أغراض هذا الكتاب، المفاجئ ربما. ثمّة ارتحالٌ مستجدٌّ إلى أزمنة تلك الرسائل، في لحظةٍ راهنة، تقع على الذي جرى وطرأ وتغيّر في كل هذه السنوات. يتوازى فيه التذكّر مع مراجعة الذات وأحلام الماضي. ليس ثمّة جرعاتٌ ظاهرةٌ من الحنين، ولا ثناءٌ على "زمنٍ جميل" انقضى. وفي الوقت نفسه، لا يُنصّب إلياس نفسه حكيماً بأثر رجعي. ما يفعله أنه يكتب نصوصاً أدبيةً فحسب، قلقةً في مناوشتها كاتبَها، لتبدو، أحياناً، أنها ليست إلى مؤنس الرزاز، والذي يُخاطَب فيها كأنه سيقرأها بعد قليل، وإنما إلى إلياس نفسه الذي أعطى مفتاحاً لقارئها، بإيضاحه في تقديمه الكتاب، أنها "انفلتت من زمن مثيراتها الأول. خرجت منه لتتحرّر وتفتح أفقاً جديداً، هو زمنها هي".
تجول الرسائل، غير المتبادلة في وصفٍ جائزٍ لها، على غير شأنٍ في القصة والرواية والكتابة والقراءة، وفيها الوفير من الشخصيّ الخاص، والغزير من العام، السياسي العربي، بل والعروبي و"البعثي" و"القومي" إنْ شئنا. ثمّة أحلام شابّين صديقيْن، تعرّفا إلى بعضهما في 1967، وعاشا معاً في دراستيهما في بيروت، واشتبكت مداركهما مع تحولاتٍ ومتغيراتٍ قدّامهما، وكانت لهما تطلعاتهما وأشواقهما الذاتية الشخصية، واختبرا قناعاتٍ في الأدب والكتابة، وأرادا أن يكونا جديديْن وطليعيّين وتقدميّين. لم يكن مزاج مؤنس كما مزاج إلياس، (ليس مطلوباً أن يكونا واحداً)، اتفقا واختلفا، قرأ كل منهما للآخر. كان مؤنس يُسافر في العالم، فيما إلياس ممنوعٌ من السفر من عمّان.
يقدّم فيصل درّاج "رسائلنا ليست مكاتيب"، ويرى فيه سيرةً ذاتيةً لجيلٍ من المثقفين العرب، وسيرةً أخلاقيةً إبداعيةً لأديبين مختلفين. وهذا صحيحٌ، خصوصاً بشأن مؤنس، إذ تُفاجئك في رسائله حماسته لحكم "البعث" في العراق، في أحد أطواره، ما قد يعود إلى موقع والده منيف الرزّاز في الحزب، ومن عجبٍ أن مؤنس يكتب لصديقه عن "الأدب البعثي"، وعن "بغداد ورشة عمل هائلة"، وذلك كله، قبل أن ينعطف حال منيف الرزّاز وأسرته إلى حال آخر. واللافت أن كاتبنا لم يتورّط في المستوى المتواضع لذلك "الأدب البعثي"، إن جاز وصفه أدباً أصلاً، والذي يوضحه مؤنس بأنه "الذي يعبّر عن انبعاث الأمة" (!). بل كان وفياً، في إبداعه، الروائي والقصصي، للأدب وشروطه الفنية العالية، وقدّم أعمالاً مجدّدة، في المدوّنة الروائية العربية، في تنويعات بناءاتِها، وفي جماليات الالتباس الذي طالما أقامه بين الكابوسي والواقعي، وفي غير ذلك مما صنع لمؤنس مكانته المؤكّدة بين الروائيين العرب. لم يكن إلياس، في ذلك الزمن، مقتنعاً بهذا المفهوم، وفي 2015، يكتب إلى صديقه الراحل، إنه ما زال على موقفه غير المقتنع بمسألة "الأدب البعثي"، و"يُحاوره" (أو يحاورنا؟) بأن ما تراه، يا مؤنس، انبعاثاً في العراق ليس بالضرورة ما يراه غيرك على نحوه المختلف، حالاتٍ وتوصيفاً وتسمية، وذلك في رسالةٍ، يؤشر أحد سطورها إلى "المناخ المضبّب بالحرائق اليوم". والمؤكّد أن هذه الحرائق ليست التي تجعل إلياس على قناعته هذه، وإنما ثقافتُه الخاصّة، وخياراته الأدبية التي يقع قارئ "الرسائل" على بعضها، وهي تتأكّد، أصلاً، في منجز إلياس الروائي والقصصي، المعروف بالمغامرة في تجريب الأشكال ومستويات السرد والبناء.
رحم الله صديقنا مؤنس الرّزاز، لطالما أسعدتنا مجالساتنا معه، وهو صاحب المقارنات والمشابهات الطريفة، والمبالغات أحياناً. نتعرّف في رسائله على قلقِه المقيم دائماً في شخصه. ونتعرّف أيضاً في صديقنا إلياس فركوح على منسوبٍ آخر من الجديّة في شخصه... كما الجدّة دائماً في يكتب، متّعه الله بالصحة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.