هذا النداء .. هذا الجنون
أما النداء في العنوان أعلاه فهو الذي بادر مثقفون فلسطينيون، عددُهم محدودٌ جدا، إلى صياغته وإشهاره، ودعوةِ من يستطيبه إلى التوقيع عليه، وطالب بنزع الشرعية عن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عبّاس، باستقالته أو إقالته. وجاء مدهشا أن الاستجابة كانت واسعةً جدا، فقد تجاوز عدد الموقّعين على النداء ألفين، بينهم كثيرون وازنون في الفكر والعمل السياسي والنضال الميداني والإنتاج الأكاديمي والإبداع الأدبي والنشاط الإعلامي والفعل الثقافي العام والحراك المدني. أما الجنون فهو الذي عوين في ردودٍ على النداء، اقترفها كتّابٌ وإعلاميون وناشطون، شرّقوا وغرّبوا في كلامٍ فاض بالعجيب من فرضيات التآمر والتدبير والتخطيط. ولا شطط في نعت ما فعله هؤلاء بالجنون، طالما أن دولة قطر والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وعزمي بشارة وحمد بن جاسم هم وراء النداء، وطالما أن الرئيس محمود عبّاس هو "القابض على جمرة المشروع الوطني التحرّري" الفلسطيني، فيما يشترك "المثقفون الانتهازيون" في "نص التحريض" الذي صاغوه مع خطاب التحريض الإسرائيلي المنشأ ضد الرئيس، على ما كتبت صحيفة الحياة الجديدة (أظنها الصحيفة الرسمية للسلطة الفلسطينية؟) في افتتاحيةٍ موقّعةٍ باسم رئيس التحرير. ومن مفارقاتٍ يحتاج واحدُنا إلى عقل أينشتاين لفهمها، أن موالين للرئيس أبو مازن وخصوما له اجتمعوا في الحملة "المجنونة" ضد النداء. ومن هؤلاء الخصوم من يُحسبون على تيارٍ معلوم الارتباطات، يسمّي نفسَه إصلاحيا، تآمر مع أجهزةٍ ودول، فعلا لا قولا، على عبّاس. كما أن آخرين تدافعوا ضد النداء لا يتورّعون عن تخوين الرجل ونعته بأنه جاسوس، الأمر الذي أجيز لنفسي القول إن الغالبية العظمى من الموقّعين على النداء لا يتبنّون هذا الاتهام غير اللائق ضد الرئيس الفلسطيني، فضلا عن أن نصّ النداء يخلو تماما من أي مفردةٍ توحي بشيءٍ من هذا.
ومما يُؤسَف له، ويؤشّر إلى بؤسٍ غير هيّن في الحالة الفلسطينية عموما أن الذي نَثَره المتحدَّث عنهم، بشأن النداء الذي أدّعي هنا أنه جاء موزونا ومتوازنا، كاد الجنون في ضجيجه يغطّي على انتقادات أصواتٍ محترمة، آثرت الاختلاف مع الموقّعين على النداء، بلغةٍ فيها العقل والرزانة، ابتعدت عن قلة التهذيب (والزعرنة)، ورأت مثلا في النداء شيئا من الشخصنة، إذ لا يحلّ عزل محمود عبّاس مشكلات الحال الفلسطيني الراهن المأزوم، وأن الأدعى هو التوجّه إلى إصلاح منظمة التحرير، وتجديد الهياكل المؤسّسية فيها. وفي ظن صاحب هذه الكلمات أن الأوجب كان أن يتّجه النقاش إلى هذه المواضع، وأن يصير في شأنها الأخذُ والردُّ مع الأصدقاء والزملاء الذين صاغوا النداء وأشهروه، وإنْ جاء النداء نفسُه على هذه الأمور، بل إنه قرن استقالة عبّاس أو إقالته من مواقعه، رئيسا للسلطة ولمنظمة التحرير ولحركة فتح، بإسناد حملةٍ من أجل إحياء منظمة التحرير وإصلاحها. ولمّا قال من قال إن علاج الحال الفلسطيني لا يتم بالعرائض، وإنما بانتخاباتٍ للمجلس الوطني وأخرى للتشريعي وللرئاسة، فإن لا أحد قال غير ذلك، وقد جاء النداء على فعلة الرئيس عباس "إلغاؤه الانتخابات الفلسطينية التي كانت مقرّرة في شهر أيار/ مايو 2021، وبالتالي تكريس غياب أي شرعيةٍ انتخابيةٍ أو شرعيةٍ يُستند إليها". ومؤكّد أن الرهان في بدء خطوات التغيير لا يكون على عرائض، وإنما على تنفيذ النافع فيها، الذي يصلح لانطلاقة عملٍ وطنيٍّ عام، يأخذ الحال إلى جديدٍ مغايرٍ ومتقدّم. أما بقاء الحال على ما هو عليه، والقعود عن أي حركة، والمرابطة أمام شاشات الحواسيب للتربّص ضد فلان وعلان في "السوشيال ميديا"، والاعتصام بنبذ أي اجتهادٍ (أو نداء أو عريضة..) يحثّ على رفض الجمود والسكون والإقامة في المطارح المحنّطة، فهذا كله (وغيره) لن يأتي بشيء.
محمودٌ أن فعلا تنادَت إليه نخبةٌ فلسطينيةٌ مثقفةٌ قوبل بصدى واسع، واستُقبل باهتمام. والبادي أن النداء الذي أطلقوه أحدث ارتجاجا في النخبة النافذة في محيط الرئيس محمود عباس، المدعوّ إلى مساءلة نفسه عن الأسباب التي جعلت هذا الجمع الفلسطيني الطيب من فئاتٍ عريضةٍ في عموم الوطن وفي الشتات تطلب منه الاستقالة. وكان بالغ الضرورة، في غضون اليباس الثقيل الذي يغلّف الراهن الفلسطيني، على المستويين المؤسساتي والقيادي، أن يحظى النداء بسجالٍ راقٍ وثقيل القيمة، ولكن مقادير الجنون التي عوينت بشأنه دلّت على أن التمرين الفلسطيني على احترام الاختلاف والمغايرة لمّا يبدأ بعد.