28 أكتوبر 2024
هافل وهؤلاء .. وأردوغان
كان الكاتب والمسرحي التشيكي الراحل، والذي ترأس بلادَه سنوات، فاكلاف هافل، يلحّ على الأخلاق في السياسة، بل كان يعرّف السياسة بأنها الأخلاق قيد التطبيق والممارسة. والمعلوم أنه كان يعتنق الانحياز إلى التعدّدية والحريات العامة، وكان مناوئاً للشمولية والاستبداد. وقد ناضل ضد الحكم الشيوعي في بلاده، وظل، في الوقت نفسه، يعدّ نفسه اشتراكياً، وبقي ناقداً جذرياً للرأسمالية الليبرالية ونظامها السياسي، وكان يقول إن "الاشتراكية بالنسبة له موقف إنساني وأخلاقي وعاطفي"... مناسبة تذكّر هذا المثقف النبيل أن الأخلاق تكاد تنعدم لدى مثقفين عرب، ينسبون أنفسهم إلى اليسار والاشتراكية، في غير موقفٍ ومسألة. وهذه محاولة الانقلاب اليائسة والفاشلة في تركيا واقعةٌ جديدة، أبدى هؤلاء بشأنها مستوىً مريعاً من البؤس، يزيد من أسباب استهجانه أن كثيرين منهم كتّاب أدب، أي من المفترض أنهم منحازون للحرية والجمال، لانشغالهم بالإنسان وجوداً ووجداناً.
ليس في وسع هؤلاء أن يكونوا اشتراكيين ويساريين، إلا إذا أقاموا على موقفٍ إقصائيٍ وعدوانيٍّ تجاه الإسلاميين، والتسمية هذه تشمل المنضوين في التيارات والحركات الإسلامية المشروعة. يأخذهم موقفهم هذا إلى اصطفافٍ مع العسكر إذا ما وثب هؤلاء إلى السلطة، بدعوى حماية الدولة من حكم إسلاميين، قائم أو محتمل أو غير مستبعد. ومن مظاهر رثاثة الراهن العربي أن تركيا أصبحت موضوع استقطاب سياسي بين المثقفين العرب، والعجيب أن شخص الرئيس رجب طيب أردوغان موضوع تنازعٍ بينهم، فيما الأمر، ببساطةٍ، أن مواطنيه الأتراك هم من ينتخبونه رئيساً أو رئيساً للحكومة، أو يزيحونه بانتخاب غيره. هم من يحاسبونه على أخطائه أو يكافئونه على منجزاته. ولنا، نحن العرب، أن نتملّى في هذه التجربة، ونفيد مما قد تتوفّر عليه من أسبابٍ تنفعنا، سياسياً ومصلحياً.
من طريف ما تقرأ، في هذا الأمر، أن روائياً فلسطينياً معروفاً يعيّر أردوغان لأنه "يعود إلى كرسي عرشه، عندما لم تحمه سوى أجهزة المخابرات والأمن التي بناها، وأحاط بها نفسه وحزبه". ليس المضحك في أمر صاحبنا السبعيني هذا أنه لم يعرف بعد مفهوم الدولة ووظائف مؤسساتها وأجهزتها، بل أيضاً أنه مولعٌ بالنظام الوراثي في دمشق، والذي لم يبن في سورية سوى دولة المخابرات والأمن والبوليس، فلم ينجم عن بنائه هذا سوى الخراب والحطام الاجتماعي والسياسي الذي نرى. ومن طرائف أخرى أن كتّاب أدب ٍمصريين رابطوا، في الساعات الست لمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، منتظرين نجاحها، كما تبدّى في شماتتهم المبكّرة بأردوغان، و"الإسلام السياسي" الذي يمثله، بحسبهم، ثم ما أن أخفقت المحاولة، لم ينتبهوا إلى أن شعب تركيا هو من انتصر على الانقلابيين، بحمايته الدولة، وأن إرادة هذا الشعب هي التي كانت مستهدفةً أساساً، بل آثروا إعطاء أردوغان دروساً في الحكم، بالانفتاح الديمقراطي والإعلامي، والتخفّف من شخصانيته ونزوعه الفردي، وتمتين المدنيّة في تركيا. وليس التسلي والتسرية عن النفس ما يجعلانك تراقب ما يحكيه هؤلاء وما يخربشونه، وإنما هي الرغبة في معرفة أيّ مراتب للانحطاط في التفكير السياسي أصبحوا فيها، وهم الذين وصل تبجيلهم عبد الفتاح السيسي، شخصاً ونظاماً، مرتبةً تدعو إلى الأسى على الأمة كلها، حين يكون بين كتّاب القصة والرواية والشعر (الشعبي منه أيضاً) من هم على هذا المستوى من الرداءة، ولا سيما أن الأخلاق الإنسانية المحضة تكاد تنعدم عندهم، وهم يصمتون عن تزايد أعداد القتلى في سجون السيسي، بسبب التعذيب والإهمال الطبي.
لا يعرف كتابٌ عربٌ كثيرون أن في الوسع أن يقيم المرء على موقفٍ نقديٍّ ومعارض ومضاد للإخوان المسلمين، وأترابهم من الحركات الإسلامية في الطيف السياسي العربي، ويُناهض، في الوقت نفسه، كل تسلطٍ وعسكرةٍ وتجبّر وتزييفٍ لإرادة الشعب. لا يعرفون أن في مقدورك أن تكون مع شرعية صندوق الاقتراع وضد أي انقلاب عسكري، وبأي لونٍ أو ثوب، وتُخاصم، في الوقت نفسه، كل استبداد، ديني أو سياسي، إسلامي أو غير إسلامي. لو يطالعوا مسرح فاكلاف هافل، ويستعيدوا سيرته، ربما يعرفون أيّ مستوىً أخلاقيّ وإنسانيّ هابط يقيمون فيه.