"نوبل" لوديعة من زنجبار في الغرب
تفعلها الأكاديمية السويدية كل عام، غالبا، وتمنح جائزة نوبل للآداب إلى كاتبٍ/ةٍ (أو مغنّ، كما فعلت في 2016!)، لا تتضمّن اسمَه (أو اسمها) توقعاتٌ يتسلّى بها صحافيون وإعلاميون، ينشرونها للإيحاء بأنهم عارفون بما لا يعرفه غيرهم. يخيّبهم أعضاء الأكاديمية هذه. وهؤلاء يتداولون شأنهم هذا في طوطميةٍ، يُلاعبون بها المترقّبين والمنتظرين وأهل الأدب والإعلام. ولمّا أعلنوا أمس الخميس اسم عبد الرزاق قرنح (الكنية الأصحّ، وإن يتردّد أنها غرنة، أو جورناه، أو غورنا، أو ... إلخ)، بدوا كأنهم أرادوا أن يرجّوا، بعض الشيء، قناعاتٍ استقرّت عن الجائزة العتيدة، بشأن مركزيّتها الغربية (95 فائزا من 118 أوروبيون وأميركيون)، وهذا صحيحٌ، ونأيها عن أفريقيا وآسيا، وعن العرب والمسلمين، فتمنح قلادَتها في الآداب لثالث كاتبٍ أفريقي (أسود) في قوائمها منذ العام 1901. تنزاني، مسلم، عربي إلى حدّ ما، فهو من أبٍ يمنيٍّ من حضرموت (اسمه سالم) وأمه تنزانية (هناك من ذكر إنها أيضا حضرمية)، ولمّا ولد في زنجبار وعاش فيها طفولته وبعض شبابه الأول، فإنه يكون زنجباريا، غير أن أرومته هذه لا يجوز أن تلغي أن مُقامه وعمله في بريطانيا منذ نحو أربعة عقود (عمل في أثنائها في نيجيريا)، هو المولود في 1948، أسهما في تكوينه مثقفا رفيعا، وأستاذا في جامعة كِنت، وأكاديميا في النقد الثقافي، ومحاضرا وكاتب مقالاتٍ ودراساتٍ في الخطابات الكولونيالية (الاستعمارية؟)، وروائيا، وإن ظهر بصفته هذه متأخرا في 1987، لمّا أصدر أولى رواياته العشر.
يخصّنا، نحن العرب، في أمر الكاتب الذي دخل نادي "نوبل" أمس أن أيا من رواياته غير مترجمةٍ إلى العربية، وكلها بالإنكليزية، فيما كثيرون من أبطالها وشخصياتها عرب، وأسماؤهم عربية، فضلا عن أننا يحسُن بنا أن نكون معنيين بموضوعات نصوصه ومشاغلها، إذ تتعلّق، خصوصا وغالبا، بالهويّات المركّبة والاضطهاد والعبودية والمنفى والذاكرة، كما أنه متعاطفٌ مع فلسطين التي زارها في نشاط ثقافي محترم. والتفسير الأكثر وجاهةً لمسألة عدم انجذاب الناشر العربي (ومعه المترجم العربي) إلى هذا الرجل أنه زاهدٌ عن الإعلام وميديا التسويق. يبدو، بحسب نتفٍ نُشرت عنه، شغّيلا وجدّيا وجادّا. وقد عدّته مظانٌّ وازنةٌ أحد أعظم الكتاب الأفارقة الأحياء، واستثنائيا. وقد نالت رواياتٌ له تقديرا طيبا في أوساط ثقافية بريطانية، ووصفت "الغارديان" الأخيرة منها بأنها ساحرة. وفي الذي وقع عليه صاحب هذه الكلمات بشأن الكاتب الشهير (صار شهيرا بعد الساعة الثانية من ظهر أمس بتوقيت الدوحة) أن لرواياته قيمتها العالية فنيا وجماليا. والبادي أنه فيها شغوفٌ بالحكايات والمروّيات التي تتوالى وتتدافع في سرودها، الغنية بالتشويق بحسب قارئين له، كتبوا إن ثمّة في مباني رواياته جشع تجّار عُمانيين وإيرانيين، وثمّة أبٌ يمنح ابنه (اسمه يوسف) لتاجر عربي لأنه لم يقدر على سداد ديونه، فيرتحل هذا بالفتى الذي يصير شابّا في أراضٍ وبحار ومدن في أفريقيا خصوصا، في أجواء الحرب العالمية الأولى، وثمّة ولع بالترحال والنأي والبعاد، وثمّة حضورٌ عريضٌ لزنجبار، وثمّة تعبيراتٌ عن شقاءٍ وفقرٍ واستغلال وفقدٍ وهجران، وثمّة بحثٌ صعبٌ عن الجذور البعيدة، حفرٌ في ذاكرةٍ مثقلةٍ بما هو قاسٍ، وثمّة كثيرٌ من هذا كله وغيره في روايات عبد الرزاق قرنح (أو ...)، تُخبرنا عنه ملخصاتٌ عنها، تعطي فكرةً، طيبةً فيما أظن وإنْ غير كافية، عن عوالم هذا الكاتب الذي كوفئ بالجائزة العالمية العتيدة، وعن مخيّلته المنشدّة إلى الطفولة، وإلى زنجبار، إلى تاريخٍ لم يُحرز مواضع عريضة له من انتباه الأكاديميات الغربية.
عندما تقول الأكاديمية السويدية، في بيان إعلان منْحها الجائزة للباحث الجامعي في الأدب الأفريقي، الروائي حضرمي الأصل، بريطاني الجنسية والإقامة، إنكليزي اللسان بعد سواحليّته (قرأ القرآن صغيرا بالعربية)، التنزاني الزنجباري، عبد الرزاق قرنح، إنه يفوز بها "لاختراقه القوي والمتعاطف آثار الاستعمار ومحنة اللاجئين، بجرأةٍ وعمق غير مسبوقيْن"، فكأنها، في وجهٍ ما، تطلب الاكتراث بالمنسيين والمهمّشين والمتعبين من العنصريات والقمع في شرق أفريقيا، وكأنها تقول إن مخيلة كاتبٍ اهتمّت براهن هؤلاء وماضيهم والمعيش الذي أقاموا فيه تستحقّ اعترافا بها وتكريما لها. أجاد "كرادلة" الأكاديمية السويدية، هذه المرّة، الاختيار، وحسنا فعلوا أنهم يشجّعوننا، نحن العرب (وغيرَنا)، على التعرّف على نتاج قرنح، الكاتب الذي أظنّه "وديعةً زنجباريةً في ثقافة الغرب"، وكان قد كُتب لمّا أعطيت "نوبل للآداب" في 2017 للياباني البريطاني، كازو إيشيغورو، إنه "وديعةٌ يابانية في ثقافة الغرب" .. أما وديعتنا، نحن العرب، في الغرب فكانت أحمد زويل، في الكيمياء، وودائعنا الثقافية بين ظهرانينا.