نفق إلى السماء
إضافة إلى سيل الانبهار الجارف بتحطيم أسطورة السجون الإسرائيلية التي تحوّلت إلى أضحوكة، أعاد الأسرى الفلسطينيون المتحرّرون الاعتبار إلى الرقم 6 الذي ارتبط في الذاكرة الجمعية العربية بنكسة حزيران عام 1967، أو ما يُطلَق عليها "حرب الأيام الستة" التي اعتبرت كارثة قومية عظمى، لا يزال العرب يتجرّعون مرارتها. ولعل أبرز مَن جعل هذا الرقم رمزاً للتطيّر، الأديب الفلسطيني "المتشائل" إميل حبيبي، عندما كتب "سداسية الأيام الستة" بسخريته اللاذعة.
بغتة انقلب النظر إلى هذا الرقم رأساً على عقب، ليصبح رمزاً للتفاؤل، بفضل ستة أبطال جعلوا من الأسطورة حدثاً عابراً. والحال أنّ من عايش حرب حزيران يدرك جيداً حجم الانكسار الذي أصاب الأمة، ليس على الصعيد العسكري وحسب، فذلك في رأيي أقلّ خسائرها، ولا بالأرض الجديدة التي انتُزعت من الجغرافيا العربية، بل بالتحوّلات التي عصفت بالشخصية العربية ذاتها، التي فقدت توازنها، فغدت شخصيةً مصابةً بمتلازمة الدونية والهامشية، معدومة الثقة بإرادتها وثقافتها ولغتها، ليس أمام "العملاق" الإسرائيلي الذي يستطيع أن يفعل ما يشاء بلا رادع أو حسيب فقط، بل كانت دونيّة مطلقة شعر العرب معها بأنهم أصبحوا خارج التاريخ والجغرافيا والحضارة الإنسانية برمّتها... ثمّ ولجوا، بعد تلك الحرب، "نفقاً" معتماً من غياب الحرية، والتشكيك الذي اتخذ أثرين: رجعيّاً بالتاريخ، وأماميّاً بالمستقبل. كانوا يحفرون النفق، لكن إلى الحضيض، ليس بهدف الخروج إلى الضوء الذي لم يكونوا يؤمنون بوجوده حتى، بل إلى أدنى قعر تتيح لهم أصابعهم الوصول إليه، هرباً من عارهم، وتحللاً من مسؤولياتهم، حتى ارتطموا، داخل النفق ذاته، بأشخاصٍ من بني جلدتهم يحوّلون اتجاه الحفر إلى الأعلى، فلم يصدّقوا، بادئ الأمر، أن في وسع أحد أن يغيّر الأقدار العربية من الحضيض إلى الشمس.
غير أن الإنصاف يقتضي، أيضاً، أن نعترف بأحداثٍ أخرى أسهمت في تحطيم الأسطورة، في هذا العام، تحديداً، الذي اعتبره الكاتب، في مقالة سابقة، يصلُح لأن يكون "ذكرى نكبة إسرائيل" هذه المرّة، لا نكبة فلسطين، فقد شهد معركة "سيف القدس" التي انطلقت من غزّة، وزلزلت أسطورة الأمن الصهيونية، عندما بلغت صواريخ المقاومة عمق تل أبيب، وترادفت معها انتفاضة الداخل الفلسطيني التي زعزعت نسيج المجتمع الإسرائيلي، فضلاً عن بداية انشراخ الصورة الذهنية لإسرائيل أمام الشعوب الداعمة لها في الغرب.
وها هي حادثة النفق في سجن جلبوع تجيء لتصنع حلقةً جديدةً في سلسلة الهزائم الصهيونية المتلاحقة، ليس العسكرية بالطبع، بل في الرواية الصهيونية ذاتها، وبالفكرة التي قام عليها هذا الكيان، والأهم بما تتركه هذه الأحداث على الطرف المقابل، العربي، الذي بدأ يستعيد شيئاً من ثقته بنفسه وبقدراته، واعتزازه بهويته، وبإعطاء الحجم الحقيقي لعدوّه بعيداً عن رتوش العملقة والأسطرة، فهو عدوّ قابل للهزيمة، لو حورب بإرادة حقيقية، وقضبانه الفولاذية قابلة للتقويض بملعقة وظفر، إن ترافقا مع العزيمة والتصميم. ولا يهمّ إن قبض على أولئك الأبطال بعد الخروج؛ لأن شرط الحرية المقرون بشرف المحاولة قد تحقق، وما ينقصُنا فعلاً هو هذا "الشرف".
نعلم أن "سكان النفق" لن يخرجوا بهذه السرعة التي ننشدُها، لكننا قد نكتفي منهم بإطلالة عاجلة من الفتحة التي خرج منها رفاقهم الستة. يكفي أن يختبروا شعاع الحرية، ولو هنيهة واحدة فقط، كما اختبرها من سبقهم من سجناء لم يستكينوا للقيود والسلاسل.
يكفي أن يبلغوا مرحلة "التشاؤل" على غرار بطل إميل حبيبي "أبي النحس"، الذي حاول الموازنة بين الأضداد، ليحفظ توازنه فقط، ولو بالسخرية المرّة، مع إدراكنا أننا تجاوزنا هذه المرحلة بكثير، وغدت جرعات التفاؤل أكبر من التشاؤم، لكن ما زال أمامنا الكثير للحاق بمن خرجوا من النفق قبلنا، شرط أن نحفر إلى الأعلى هذه المرّة، لا إلى الأسفل، وسيكون، بلا ريب، نفقاً إلى السماء.