نعم .. هي أشياء لا تُشترى
في حياة كل منا أشياء كثيرة لا تباع ولا تشترى، حتى وإن بدت لنا بسيطةً وغير لافتة للوهلة الأولى. أو ربما لا نعرفها ولا نستطيع تمييزها أحيانا من بين ما نملك أو يتملكّنا من مشاعر وحالاتٍ ومعانٍ وأشياء. لكنها، في لحظة ما، تتبدّى لنا حقيقة جميلة، ولا يمكن تجاهلها أو الشعور بالامتنان لها ولأصحابها.
هي فعلا أشياء لا تُشترى، بعيدا عن المعنى الذي أراده أمل دنقل في قصيدة شهيرة له، والتي ورد فيها هذا المعنى على الصعيد الوطني أو السياسي، فحياتنا أقدم من هذا المعنى وأوسع وأكثر تنوّعا. وبالتالي، علينا دائما النظر في تلك الزوايا المعتمة في حياتنا لاكتشاف تلك الأشياء العصيّة على البيع أو الشراء أو التفريط بها.
نعيشها مواقف وحالات، ونحتفظ بها ذكريات ومبادئ، ونشعر بقيمتها تلويحة أخيرة أحيانا على حافّة غياب عزيز، أو رسالةً مذيّلةً بتوقيع مجهول، لا تلبث أن تكون مسارا للعمر كله، أو بيتا شاردا من قصيدة حب أندلسية، أو لوحة معلقة بإهمال على جدار مهملٍ بدوره نكتشف، بعد سنوات على تعليقها، أنها تلخّص خريطة الحياة في الكرة الأرضية، أو كتابا صغيرا محشورا بين كتبٍ لامعةٍ في رفّ مكسور نجده فجأة، ونحن نبحث عن سطر منسي في روايةٍ قديمة، فنعرف أنه وحده المطلوب! .. كثيرة هذه الأشياء، وإنْ كانت بمعناها النبيل نادرة وقيمة.
وأنا أعيش حياةً مزدحمةً بكثير من هذه الأشياء التي لا تُشترى، وأشعر أنني محظوظة جدا بوجودها في حياتي، وأنني أعرفها، وأشكر الله عليها، لأنها أضفت على حياتي غبطةً متولدةً من القناعة والرضا والحب. لكنني، على الرغم من ذلك، أغيب عنها أحيانا تحت وطأة زحام الحياة بمفترقات الطرق وصعوبة المضي في خياراتنا المشتهاة، كأن أقارن حياتي بظروفها الصعبة ومنغّصاتها الكثيرة بحيوات من حولي، فأسقط في حفر المقارنات الساذجة وامتحانات الرضا والقناعة والحب على هوامش الاحتياج والفقد. يحدُث هذا دائما، لكنه لحسن الحظ لا يستمر طويلا، فسرعان ما تباغتني الحوادث بما يذكّرني بتلك الأشياء التي لا تُشترى في حياتي، وأعظمها محبّة أغلبية الناس ممن أعرف وممن لا أعرف، وهي محبّة تأتيني بهيئة فيوضٍ غامرةٍ للروح، ومحمّلة بمعانٍ لا يمكن تحديدها على وجه الدقّة. أقف أمامها قليلا في مواقف الارتباك ومحاولات التفسير فلا أكاد أنجح إلا بالعودة إلى بهجة الدعاء، عندما يعرج بروحي إلى سماء اليقين .. وما أجمله وما أقربه من يقين.
في العشرة الأواخر من شهر رمضان المنصرم، كنت أعيش تلك البهجة الغامرة بفيوض الدعاء خلال صلوات القيام، وكان يقيني بالإجابة دافعا لي إلى التفكّر في تلك الأشياء التي لا تُشترى في حياتي .. والتي لا يمكن أن أتجاهلها حتى وأنا أرصد ثغرات النقص الواضحة في حياتي. وربما كان هذا من علامات الاستجابة لصادق الدعاء وشفافيته في ليالٍ عابقةٍ باستشعار الخير، والسعي إليه صلاة وصياما وقياما ودعاء.
عندما عصف عاصفٌ بسيطٌ في حياتي اليومية، في أثناء ذلك كله، كانت محبّة الناس الغامرة بفيوضها الدرع الواقي لي من أي شعورٍ بالضعف أو الحزن أو الارتباك أو حتى الخوف. لذلك وجدتُني أكمل سجودي الليلي بصلاةٍ لها طعم اللذة كله، فأكتشف أن تلك الصلاة هي ما أحتاجه لأكمل ما تبقى لي من حياةٍ بخياراتي الخاصة حرّة وممتنّة بكل ما يساهم في تعزيز حرّيتي كما أريدها، وكما أتمنّاها، وكما أحلم بها هدفا أخيرا لحياتي. الحمد لله.