نظرية العشيرة عربيّاً

08 أكتوبر 2023
+ الخط -

هل كان دريد بن الصمّة يدرك أنه أسّس، ببيت شعر واحد، أدوَمَ نظرية سياسية عرفها التاريخ العربي؟ لعله لم يكن؛ لأن عصره الجاهليّ، الذي استمع إلى بيته الشهير "وما أنا إلا من غزيّة إن غوت/ غويت فإن ترشُد غزية أرشد"، كان بيئة خصبة لهذا الطراز من الأشعار التي تحتفي بتمجيد القبيلة والعشيرة، غير أن هذا البيت، حصرًا، كان حجر الزاوية في "نظرية العشيرة"، التي تبنّاها العرب منهج حياة لا يقبل الجدل والتشكيك.

ولئن كان ابن الصمّة يعبّر عن حالة اجتماعية سائدة آنذاك، فإن ثمّة من تلقف هذا البيت، في عصور لاحقة، ليصنع منه نظرية سياسية للحكم من حكّام استخلصوا منه شعار "الولاء المطلق"، وإلغاء العقل تمامًا، أو تأجيره للحاكم في أحسن الأحوال، وما على الرعية غير أن تتبع السلطان، حيث يذهب قراره، صائبًا أو مخطئًا.. غاويًا أو راشدًا. لا يهم، بل المهمّ هو الطاعة العمياء، بلا نقاش أو حوار أو اعتراض.

كما جعل منه الحكّام دستورًا موازيًا غير معلن، لكنه نافذٌ وقاطعٌ بأحكامه وشرائعه، لا سيما عندما يجرى التلاعب بالعشيرة وتسييسها؛ لجعلها عمادًا من أعمدة الحكم، لأنها الأقدر على ضبط أفرادها. وهنا لا يعود البيت إيّاه الأدوم وحسب، بل الأخطر أيضًا، لأنه أسهم في إطالة عهود الأنظمة الفردية، ووقف سدًّا منيعًا أمام محاولات الدمقرطة والتحديث السياسي والاجتماعي. وتحضر هنا أمثلة عديدة في سائر البلدان العربية، حيث العشيرة محدقة من كل الجهات، بدءًا من الزواج، وليس انتهاء بالموت؛ لأن بعض العشائر لها مقابرها الخاصة المحظورة على موتى العشائر الأخرى. ومن يتسبّب بحادث سير تنجم عنه إصابات أو وفيات، فقد ابتلي برحلة عناء طويلة ومجهدة؛ لأن عليه أن يلوذ بعشيرته أولًا، ويلتمس منها أن تحشد أفرادها لتطييب خاطر عشيرة المصاب، حتى قبل أسرته المتضرّرة. والغريب أن القضاء لا يطلق سراح المتسبب بالحادث، إلا بإذن من العشيرة المضادّة، حتى لو دفع سائر التزاماته المادية المترتّبة على الحادث. ولا يزال القضاء العشائري في بعض الدول العربية سائدًا، حتى وإن صدرت أحكام قانونية شرعية في القضية نفسها، بينما لا تتدخّل الدولة عند تعارض الأحكام، وهو ما يؤكّد تواطؤ الجهات الرسمية مع العشيرة وقوانينها.

حاصل القول، برهنت نظرية العشيرة أنها الأقوى في صراعاتها مع النظريات الأخرى كافة، حتى في مهدها زمن الجاهلية، إذ كانت هي المنتصرة في سائر حروبها، فمن ظنّ، مثلًا، أن صراعات العشائر والقبائل في العصور الجاهلية أضعفت دورها فهو مخطئ، فلا داحس غلبت الغبراء، ولا الثانية أبادت الأولى، وكذا الأمر في حرب البسوس، لأنها برمّتها حروبٌ خيضت من أجل توطيد أركان القبيلة بمفهومها المطلق. ولئن خفت صليلها زمن الإسلام الأول الذي أراد تهذيب نوازعها، والاستفادة من إيجابياتها المشتملة على الفزعة لتوطيد أركانه، فقد ظلّت كامنة في نفوس كثيرين، وما إن انطوت صفحة الخلافة الراشدة، حتى انطلقت من عقالها مجدّدًا، لا على أيدي العامة فقط، بل تبنّاها ساسة هذه المرّة، ممّن أرادوا المُلك عضودًا خالصًا لهم ولنسلهم من بعدهم، على القاعدة القبلية القائلة "ابن الشيخ شيخ"، وصولًا إلى "الجمهوريات" العربية الحديثة التي نحرت شعاراتها التقدّمية والتحرّرية، ولاذت بالعشيرة لتخليد فرديّتها واستبدادها، ومنهم من حوّل شعار حزبه الحاكم إلى "قبيلة سلطوية واحدة ذات رسالة خالدة"، أو كما فعل صدّام حسين الذي لاذ بمسقط رأسه تكريت وعشائرها فقلّدهم أرفع المناصب، وأشدّها حساسية، لا سيما المتعلقة بأمنه الشخصيّ، وأمن نظامه. ولا يخلو الأمر من ارتداء الرموز القبلية فوق البزز العسكرية والمايوهات؛ وجعلها صورًا رسمية من صور الزعيم، لاستمالة العشائر والقبائل إلى جانبه.

شكرًا لدريد بن الصمّة، فقد سقطت عند بيت شعره كلّ بيوت التحديث العربية.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.