نشطاء البيئة والفن العالمي
مدهشة ومثيرة تلك الحركة التي قامت بها ناشطتان من حركة "أوقفوا إنتاج النفط". حين ألقتا معجون الطماطم على لوحة فان خوخ "عباد الشمس" في المتحف الوطني البريطاني. والحركة (just stop oil ) بيئية تسعى إلى تنبيه البشرية إلى مخاطر استخدام الوقود والطاقة الأحفورية التي تساهم في تغيير المناخ والاحتباس الحراري وارتفاع حرارة الأرض، ما ينجم معه مزيد من الكوارث البيئية والجفاف والفيضانات التي تخلف ملايين المشرّدين والجياع في العالم كله، سيما في الدول الفقيرة في الأساس، كما حدث أخيرا في باكستان من فيضاناتٍ جعلت مئات آلاف المواطنين بلا مأوى ولا طعام. وهو ما يتحدّث عنه أعضاء الحركة البريطانيون (جلهم عشرينيون وثلاثينيون)، إذ يقولون إن استخدام الوقود الأحفوري يجعل من كوكب الأرض غير صالح للحياة، وسوف يزيد من المجاعات والفقراء والمشرّدين في العالم، ما يجعل من التفوّق الطبقي لصالح الأغنياء أمرأ بالغ الخطورة، إذ سوف يساهم ذلك في إعادة نظام العبودية بإسلوب حداثي، وهذا يناقض كل شرائع حقوق الإنسان التي تنادي بها الدول الغنية ودول العالم المتقدّم.
ليست الحركة إذا، بهذا المعنى، بيئية فقط، بل اجتماعية، وحتى سياسية، ذلك أن كل ما يحدُث في عالمنا الحديث مرتبط بالسياسة والاقتصاد (لم يعد الاقتصاد أمرا منفصلا عن السياسة في كل الأحوال). وأعضاء الحركة محقّون تماما في أن الأثر الناجم عن العشوائية في استخدام الطاقة الأحفورية ينعكس، بشكل مباشر، على حياة البشر؛ وأن معظم حروب العصر الحديث هي حروب الغاز والنفط من جهة، وحروب مافيات وتجار السلاح من جهة ثانية؛ حروب تخلخل توازن الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتنتج مزيدا من الكوارث المضافة إلى كوارث المناخ والبيئة.
لم يكن استهداف لوحة "عبّاد الشمس" الأول للحركة، فقد سبقتها محاولات مشابهة استخدم فيها ناشطو الحركة الفن لتنبيه العالم لمطالبهم، فقبل ذلك استخدمت لوحة أخرى لفان خوخ للغرض نفسه، ولوحات لدافنشي ورافاييل وبوتتشيلي، ولوحات عديدة لكبار الفنانين في عدة متاحف في العالم. كان الهدف، كما يقول أعضاء الحركة: إذا كانت البشرية تهتم كل هذا الاهتمام بالإرث الحضاري والفني العالمي فلماذا يتم تدمير الحضارات البشرية على كوكب الأرض عبر الإصرار على استخدام الطاقة الاحفورية؟
كُتب في صحف غربية، إثر هذه الأحداث، إن الفن الرفيع هو من يدفع ثمن الصراع بين البيئة والسياسة، أو بين نشطاء البيئة وحكام العالم. ولكن هل الحقيقة هي كذلك فعلا؟ يدرك النشطاء أن الأعمال الفنية القيمة في المتاحف محميةٌ كما ينبغي من التخريب والسرقة وخلافه، ويدركون أن ما يفعلونه لن يسبّب أي ضرر في الأعمال الفنية، ربما يُصاب الزجاج الذي يحمي اللوحة أو إطار اللوحة ببعض الاتساخ، لكن العمل نفسه لن يُصاب بأي ضرر، وسوف يجعل الإعلام يسارع لنقل الحدث، وهو ما يريده الناشطون: أن يسمع الرأي العام العالمي بحركتهم وينتبه إلى ما يحدث.
ما فعله ويفعله نشطاء البيئة من استخدام التراث الفني العالمي للتنبيه إلى خطورة ما يحدُث لكوكب الأرض، برأيي، ليس فقط وسيلة مشروعة ولافتة وتجذب الانتباه، لكنها أيضا تنبّه، من حيث لا يقصدون ربما، إلى إشكالية أخرى، هي تجارة الفن وقسر ارتباط الفن العالمي بالاستهلاك وبدورة الرأسمالية العالمية عبر المزادات في العالم للأعمال الفنية، وبيع أعمال بلا قيمة فنية بأرقام خيالية، ما يجعل من الفروق بين القيمة لهذا العمل الفني أو ذاك مفقودة، وتصبح قيمة العمل بسعرِه لا بفنيّته وتاريخه. سمعنا جميعا عن لوحاتٍ هي خط مستقيم أو مربّع لوني بيعت بملايين الدولارات (اللوحة الزرقاء مثلا) أو عن فنانين معاصرين يضعون إطارا فارغا ويسعرون الفراغ (الفانتازي) بملايين الدولارات أيضا، وثمّة من يشتري هذا الهراء ويقتنيه، وطبعا ثمّة من يتباهى ويروّجه بذريعة ما بعد الحداثة الفنية.
والحال أن ما منحه النظام الرأسمالي العالمي ذات يوم من إعادة اعتبار لقيمة الفرد (فتك بها النظام الشمولي الشيوعي لصالح الجماعة)، سرعان ما فتك بها النظام نفسه عبر تسعير كل شيء وتسليعه، قيما كان أو معدوم القيمة. وعبر تسخير موارد البشرية وكوكب الأرض لصالح فئات مافياوية تسيطر على كل شيء، وتنتج مزيدا من البؤس والخراب، بدءا من البيئة وليس انتهاء بالتراث البشري الفني.