نحن بنات طارق

30 اغسطس 2024

(أسعد عرابي)

+ الخط -

وقفت أمّ كلثوم أمام الميكروفون، لتسجّل أغنية "والله سلام يا سلاحي"، خلال حرب 1967، ووصل إليها إنذارٌ بإمكانية قصف إسرائيل مركز الإذاعة والتلفزيون. لكنّها أصرّت على إتمام التسجيل حتّى لو قُصف المبنى، أو هكذا يُروَى. لم تكن المرّة الوحيدة التي غنّت بها أمّ كلثوم في الحرب، بل لها أغانٍ كثيرة منها "راجعين بقوة السّلاح"، و"إنّا فدائيون".

لكنّ هذه الأغاني، رغم حماستها المُفرطة، رافقت الهزيمة لا النّصر. ولسُخرية المصائر، توفّيت أمّ كلثوم في 1974 ولم تغن لحرب 73، رغم أنّها عايشت الانتصار. وحتّى لو فعلت، لسنا واثقين من نجاح الأغنية. فبشكلٍ ما تميل أغاني الانتصار لتكون أقلّ شهرةً من أغاني الهزيمة؛ أو بالأحرى أغاني المقاومة، أو أغاني الحرب الحماسية الموجّهة لمواساة جنود يُضحّون بدمائهم من أجل ملايين نائمين في بيوتهم، إذا لم تُقصف.

حتّى الأناشيد الوطنية، سيّدةُ أغاني الحماس، إعلاناتِ حرب، وفرمانات عسكرية شديدة البأس. في مونديال قطر، انتبهتُ مع عزفِ الفقرة الأولى من أناشيد الدول المشاركة إلى كلمات الدماء والسيوف والبنادق والأعداء، التي ازدحمت في أفواه المُغنّين. دولٌ استقلّت، وانتهت من الحروب منذ زمن بعيد، فرضاً، ومازالت تهدّد الأعداء بالقتل والهلاك، وأحياناً لا يُرفق التهديد بسياقٍ يشترط عدوان هؤلاء الأعداء على البلاد. بل "الويل للأعداء" ويلٌ عام، وقد تضمّ قائمةُ الأعداء، أولئك الذين يقتحم جنودها "البواسل" بلدانهم.

أليس من المُعيب أن يتواصل عزف أناشيد الحرب في أحداث رياضية، وهي المناسبات الوحيدة التي يُحتاج فيها النشيد بالنسبة للدول التي لا تفرضُ قراءة النشيد الوطني في الصباحات المدرسية، ولم تُبتدع فيها "تلاوة" النشيد في المناسبات العادية مثل الندوات؟

تخيل سريالية الندوة التي يقف فيها الحضور الكريم لترديد النشيد الوطني. وهذه البدعة الأخيرة بدعة اليمين الذي تتّشح به بعض نخبة دولنا إمعاناً في "الوطنية". تخيّل أن يكون النشيد دعوةً للحرب وللقتل، والندوة عن السلم وحقوق الإنسان. مع أنّ هذه الأخيرة تبدأ من حقّ جوهري، من دونه لا حقوق، وهو الحقّ في الحياة.

لعلّ الدول تنتبه إلى تغيير النشيد الحربي، إلى نشيد وطني سلمي، يفتخر بالبلاد من دون ذكر الدماء والأعناق، وأن يُحصر في الألعاب الرياضية. لأنّ الافتخار بالبلاد سلوك ساذج، فالمواطنة ليست المعيار الأساسي لقيمة الإنسان. مع ازدحام الدول بجنسيات مختلفة، يحقّ لها في البلاد مثلما يحقّ للمواطن الأصلي. ولا يمكن أن يقف نصف الحضور في قاعة لترديد نشيد وطني، لأنّ النصف الثاني غير مواطن، وغير معني بـ"التّلاوة الحماسية"، فيقف الجميع مُكرهاً. أليس ذلك استبدادا بفرض تعاليم رسمية على أفراد لا يؤمنون إلا بالإنسانية أو لا يملكون غيرها؟

في شهرة أغاني الهزيمة، وفي حروب المسلمين مع قريش، لم تشتهر قصيدة بقدر "نحن بنات طارق نمشي على النّمارق/ إن تُقبلوا نعانق أو تُدبروا نفارق" لهند بنت عتبة. يجدر القول إنّ "النّمارق" هي جمع نُمرقة وهي الوسادة الصغيرة. وبغض النّظر عن أنّ معركة أُحد انتهت لصالحِ قريش، لكن في الوقت الذي كانت تغنّي فيه هند، كانت الهزيمة تلاحقهم، فكان ذلك نداء الهزيمةِ للنصر.

القصيدة درسٌ لأصحاب النشيد الدموي، فهي ليست أغنية دماء بل إغراء. تُغري هند رجال قريش بما ينتظرهم من مكافآت، عندما يعودون منتصرين، ولو امتلأت كلماتها بالدماء والشماتة بالخصم، لما سمع عن قصيدتها أحد. مع غضّ النظر، تجاوزاً، عن فكرة الإغراء في الحافز الحربي، ودور المرأة هنا.

في نموذج آخر، كتب الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف أغنيةً متأثّراً بزيارته مدينة هيروشيما اليابانية عام 1965، بعد رؤيته منحوتةَ طفلةٍ تُدعى "ساداكو" تمسك الغَرانيق الورقية في يديها، و"الغَرنوق" طائر بحري. هذه الأغنية التي تُؤدَّى في الاحتفالات بُعيد النصر لا تمجّد الحرب بل الحزن. "يُخيّل إلي أحياناً أنّ الجنود الذين لم يعودوا من حقول الدّم/ لم يرقدوا تحت الأرض حين سقطوا/ بل أصبحوا غرانيقَ بيضاء...".

لعلّ الناس تُحبّ أصوات المهزومين المكسورة رغم شدّتها الظاهرة، لأنّ الهزيمة أسهل وأقرب من النصر. لكنّ التاريخ أثبت أن ما يدوم هي أغاني النّمارق والغَرانيق، لا فَرَمانات السيوف والمدافع.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج