نثارات منتقاة من المجالس المحفوظية
كان مقهى قشتمر لابن الموسيقار داود حسني، أخوه راح إلى إسرائيل وأصبح مذيعا، سمعت عن إسلام صاحب المقهى ... لكني غير متأكّد.
أذكر أنه كان فيه حكايات عن عفريتة اسمها "زرمبيحا"، وكنت في البيت أغنّي وأنا طفل أغنية فيها اسم "رزمبيحا"، الجيران سمعوني، أرسلوا إلى أمي، طلبوا منها أن أتوقف عن ذكرها حتى لا تطلع لهم.
لم يكن ملتحقا بقسم الفلسفة إلا أربعة، وهم توفيق الطويل، عبد الهادي أبو ريدة، على عيسى، ورابعهم كان نجيب محفوظ بالطبع، إلا أنه بعدما استعد للماجستير، خطفه الأدب، وهو أول مخطوف في عالمنا العربي من طلاب الفلسفة خلال قرن أو أقل بقليل استطاع أن يحصل على جائزة نوبل في الأدب، وما زالت مدرجات أقسام الفلسفة تملأ النجوع والكفور والمدن بأمناء المكتبات أسفل رفّين من الكتب، كما كان يقول لنا ضاحكا جلال يحيى رحمه الله في قسم الفلسفة في آداب المنيا في نهاية السبعينيات، كي نشرب من اليأس مقدّما، ونحن ما زلنا في مدرّجات الكلية، فهل لذلك كنت "أسرق نفسي من الفلسفة اليونانية"، وأجلس أقرأ "خمّارة القط الأسود" في مكتبة الكلية، وكأن نجيب محفوظ كان ساعتها بمثابة الصديق البعيد الذي يمدّ لي يده مناديا "تعال"، كي يقطع عليّ الطريق في أن أكون مفكّرا يشار إليه بالبنان، وعلّ ذلك هو أول كرم محفوظي نلته منه قبل أن أجالسه. من بعيد. في مرتين.
أما المرّة الأولى فقد كانت بعد "نوبل" بأيام في كازينو قصر النيل، ولم يكن معنا أنا، والصديق الشاعر محمود قرني أمده الله بالصحة والعافية، سوى ثمن كون الشاي "بالعافية"، وكان حينئذ بثلاثة جنيهات وربع، إلا أن محفوظ، كعادته في مجالسه، يكون لبيبا وحسّاسا ولا يرفض أي أحد، ولكنه يميل بأذنه على عتاة القعدة، كي يقوموا بالمهمة، لأدبه وكياسته وخجله أيضا. وحينما ذكرنا لمحفوظ أننا نريد حوارا بسيطا معه، "فعمل مش سامع"، إلا أن المرحوم الفنان أحمد مظهر تطوّع بالرد، وقال: "روحوا لنجيب بيه في الأهرام"، فقال محفوظ: "خلاص كما قال أحمد بيه"، دفعنا أنا ومحمود ثمن المشاريب وغادرنا المكان. بعدها بسنوات، سُرقت أوسمة أحمد مظهر ومسدساته كلها ليلا، ففرحت جدا. وفي الصباح وأنا أقرأ الجرائد، كانت كل مسدسات أحمد مظهر وأوسمته ونياشينه قد عادت خلال ساعات، إلى حديقة قصرة بلا نقصان، بعدما قامت وزارة الداخلية (داخلية حبيب العادلي) بالواجب خلال ساعات معدودات.
المرة الثانية، والتي شرّفتني الأقدار بمجالسته عن قرب، كانت في فندق سميراميس. وكان بالطبع يملأ الجلسة صخبا وكلاما وتنظيرا الراحل علي سالم، وكانت زميلة شاعرة تريد أن أذهب معها، ولا أعرف سبب ذلك، فذهبت "وكلّ واحد يطلب لنفسه كما ذكرت"، وقد كان. وفي دخولها لاحظت كمية العطور التي تقتل تمساحا، مع فستانٍ قصير بالطبع، مرّت الثلاث ساعات، والرجل بالكاد قد لمس القهوة لمسا، وأخد نفسين من السيجارة. كان في نهاياته، قبل رحيله بسنوات قليلة جدا، إلا أن همساته كانت تجلجل لها القعدة، حتى انتهت الجلسة، فدخلت الزميلة الشاعرة، الحمّام، وجدّدت العطور، هذه المرّة بعدما هدأت القاعة، بكميةٍ من العطور تستطيع أن تقتل تمساحين، وتزحزحتُ في المكان حتى صارت بالقرب منه، فتنحنح الرجل بطيبة، وسأل الحضور: "كانت هنا شاعرة من أسبوعين من بلدة كذا"، فقالوا له هي الآن أمامك، فوقفت ضاحكة وقد رمت نفسها في حضنه، فقال لها ضاحكا: "تعالي هو أنا واخد غير الريحة"، فضجت بقية الجلسة بالضحك، وتنمر من بعيد علي سالم، وصدحت الأشواق المكتومة في القاعة.
كانت هذه الأيام هي التي تم فيها اختطاف الكاتب رضا هلال من على باب شقته، بعدما اشترى "كيلو كباب وكيلو كفتة من محل كباب"، وقد كان من جلساء محفوظ، الكاتب الموهوب يهضم أشياء كثيرة، ولا يلتفت لجنايات الساسة أو النظام.
كان محفوظ لا يملك إلا كتاباته، ولذا لم تطمع فيه السلطة، وهو أيضا لم يطمع في شيء من يديها، أذكر أنه بعد المعاش، جهزوا له كهدية نهاية خدمة، رئاسة روز اليوسف، إلا أن الرجل الواعي بألاعيب السلطة من دون أن يشاكسها، إلا برواياته، رد عليهم الهدية بأدب جم، وقال: "روز اليوسف بنيت بأكتاف الشباب، وهم الآن أحق بها مني".
هذا رجل محترم من زمان مختلف، والمقارنة بالطبع ليست في صالحنا، بعدما علت أصوات الأبقار، ولم يعد للضحك ذلك السحر القديم، ذلك السحر الذي مشى مع نجيب، سبحان الله، حتى آخر عمره.