ميرال الطحاوي موهبة بلا عضلات معرفية
حينما تكتب ميرال الطحاوي، تتجرّد من كل معرفة قرائية من زاد الكتب، وكأنها تتحسّس فقط ما عاشته في أحلام طفولتها أو شبابها أو حتي هجرتها الأخيرة، كتابة لا يمليها عليها شغفُ الكتب، بل شغفُ إحساسها وذاكرتها وما تمّ الغناء به في روحٍ مستقلةٍ عما في الكتب من معارف وطرائق ونظريات، وعلّ ذلك هو ما يميّزها عن جيلها، جيل التسعينيات الذي يكاد يكون قد تربّى على زاد الغرب وترجماته والتقعّر النظري.
تظلّ ميرال من الكاتبات الفريدات التي تُغني كتاباتها، حتى وإن رحلت إلى الغرب بقدميها، إلا أنها تميل إلى الكتابة من منطلق ما فى يدها وحده، بصرف النظر عن النظرية أو كمّ المعارف التي تحصّلت عليها، على الرغم من عملها الأكاديمي في حقل الكتابة والأدب العربي عامة، وعلّ ذلك هو ما أبقى على جذوتها الإبداعية بلا تقعّر أو عضلات تحت جلد الكتابة تزيّنها للنقاد الباحثين عن مفاتيح النصوص بصرف النظر عن المتعة، ولكنها تبعد القارئ عن بساطة الكتابة والإبداع.
جملة نثرية وكأنها من حلق الغناء مرميةٌ في نسيج الكتابة، وكأنها ملقاةٌ على عواهنها تفتح الباب أمام عيون القارئ، قارئ "مندل" الكتابة، سواء للمتعة أو للتأويل أو مجاراة للغناء الذي هناك في البادية أو في أزمنة الطفولة، سواء كانت الكتابة من ذاكرةٍ تشبه الحلم لطفلةٍ في صحراء أو على حدود الصحراء، ما بين البداوة والأرض الزراعية، أو حكاياتٍ عن الجدّ أو الجدّة أو الأب أو النخيل.
يظل وتد خيمة ميرال وجوهر خبائها هي الكلمات التي تنافس الأحلام بعيداً عن التقرير أو عضلات المعرفة أو التقعّر في اصطياد الجمل، فطرف موالها في الكتابة على لسانها، وليس في "أضابير المكتوب"، أو "المعنون". هي بنت الشفاهة حتى وإن هجرتها وتغرّبت، يظلّ صيدها من كدّ لسانها وذاكرتها وما سمعته من غناء، فأخذته على محمل الجدّ أو العودة إليه كعودةٍ بعد هجران. هي كاتبة تتنعّم بذاكرة ما هو على طرف لسانها وتجافي عضلات الكتب، حتى وإن اشتغلت بما هو معرفي ونظري وتخصصت فيه كمهنة، إلا أن الكتابة تظلّ مهنة التائهين دائماً، مهنة من لا مهنة لهم، مهنة هي البديل للخرس، أو بديل للجنون، أو بديل للانتحار، وراء لقمة العيش والصعود.
هل أدركت ميرال، بعد عذاب، في روايتها "بلاد الشمس المشرقة" (دار العين للنشر، القاهرة، 2022)، أن الكتابة هي الحلم الوحيد الباقي، حتى وإن قاربنا الوصول إلى أعلى أهرامات الأحلام، الكتابة هي التي تعلن أن كل حلم مجرّد فاسد يتسلّط على شغفنا بالكتابة، وتظلّ الكتابة هي كسرة الكاتب الوحيدة الممتزجة بحلمه، وهي وتد خيمة شخصيّته، حتى وإن تبدّل الحلم، فدائماً الكتابة تعيده، كذلك الباحث عن الثراء أو الكنز في قصة بورخيس، وتلك من بركات "ألف ليلة وليلة" على بورخيس، وبعد سنوات يعرف أن الكنز ليس هناك، بل تحت نخلته وفي طرف موّاله وطرف لسانه، وقد يكون تحت حجر بيته القديم المتروك في مكانه الأول أو بيته الأول، أو حلمه الأول، حتى وإن تهشّم بنيانه، حتى وإن خلا البيت من تلك الحكايات القديمة، بعدما ضاقت كل الأحلام علينا وتعثّرت، هنا، أو هناك، أو في كل جهةٍ نذهب أو نرتحل إليه، بتعبير كافافيس.
هل الكتابة هي البحث الدائم والتأمل للمعنى هنا أو هناك أو في أيّ جهة؟ الكتابة هي التي تلاحقنا، وما نحن سوى الخدم الباحثين عن السعادة في إتمام مودّتها، سواء ربحنا تلك المودّة أو خسرناها.
يخسر الكاتب في كل مرة نافذته أو بابه أو موّاله، كي يُمسك هناك، في ذاتِه، بتلك النافذة الأخرى أو الباب الآخر أو ذلك الموّال بعدما باتت المواويل مُرّةً وقاسيةً على اللسان، العالم هو ذلك الخسران الدائم، وما الكتابة سوى استعادة النصر للذات كي ترضى عنّا، كي نعمل ما تُمليه الروح علينا بالكتابة، فنُمسِك بالسعادة ساعاتٍ قليلات.
ميرال كاتبة موهوبة، تقول ذلك في كل مرّة بإتقان، لأنها لم تترُك تلك الطفلة التي تتأمل الأبواب أو الخيام أو الحكايات أو الغناء بالقرب من مضارب البدو على حدود الصحراء، وحدود الغيطان أو متاهة المدن كالقاهرة أو بروكلين، من دون أن يتفلّت منها أو من على طرف لسانها أو من كلامها، أول الخيط، أو أول الموّال، أو طرف الحكاية، فهي بنت الحكايات من الأصل، هي بنت الحكايات، مكاناً وأدباً وسعياً، وما الكتابة لديها سوى ذلك التجلّي غير الاستعراضي للذات، دون تبديل أو عضلات معرفية، كتابة من رأى وشاف، كتابة تقود القارئ إلى "مندل التأويل"، حتى وإن رأى الحكاية هناك مهشّمة وأليمة، كما في العالم أجمع، كتابة بطرف عينٍ تحاول أن تقول مشهد العالم الآن.