موجز عن منح الصلح

13 أكتوبر 2014
+ الخط -

كيف لفكرة القومية العربية أن تُحمى وتصان من كل هذه الحروب الإعلامية والسياسية النشطة ضدها، ومن حدّة الراهن العربي الذي يقيم في القاع، إذ راياتُ الطائفية والتفتيت والحاراتية تُعميك، غصباً عنك، عن رؤية البهيّ والنقيّ في الأمة؟ يطرأ هذا السؤال إلى البال، ساعة يُباغتك، صباح أمس، نعي الناعي المثقف والكاتب والمفكر اللبناني، منح الصلح، رحمه الله، ليس فقط لأنه أحد الذين ألحّوا، عقوداً، على أن القومية العربية فكرةٌ لا يجوز أن نقبل بهزيمتها، بل، أيضاً وأيضاً، لأن عروبية هذا الرجل كانت نظيفةً من أي توظيفٍ رديء، وسليمةً من المكابرة التافهة، ونقيةً من البعثية المستبدة. طبيعيٌّ أن لا يشتهر اسمُه بين أجيال الشباب والناشئة العرب، في زمن السباحة في متاهات الإعلام الكثير، القليل الإفادة والإغناء. وطبيعيٌّ أن يحسب، بين غير عارفيه وغير قرائه، اسماً يحيلُ إلى زمنٍ ولّى، لا يُستدعى إلا للنوستالجيا إياها، وفي المواسم الكلامية إياها، عن الوحدة العربية والناصرية والقومية، عن ستينياتٍ وخمسينياتٍ راحت. هذا قصورٌ شنيعٌ في معرفة منح بيك الصلح، لأن عروبيته لم تعنِ يوماً استسلاماً مجانياً لجمال عبد الناصر أو لغيره، فقد رأى الأخطاء والفئويات والمثالب كلها. ولكن، في حسبانه أن الوحدة السورية المصرية لو استمرّت، بعيوبها وأخطائها، لكان واقعنا أَفضل. وفي حسبانه، أيضاً، أنه لا يجوز الطعن في مقاومة حزب الله إسرائيل، "غير أنه ليس من حق الحزب أن يصادر الإرادة اللبنانية".
عاش منح الصلح نحو تسعين عاماً، وحدثَ أن استمع إليه كاتب هذه السطور غير مرة، وإنْ لم يسعد بمجالسته، وهو المأثور فيه مزاحه ونكاته، والظاهر أن سماحة شخصيته ورحابتها، وخبرته المديدة في الاشتباك مع قضايا العرب ونوائبهم، منذ شبابه المبكر، تنسجم مع سمتٍ منفتحٍ واضحٍ في مؤلفاته ومقالاته ومحاضراته وندواته وخواطره وتأملاته وتعليقاته. وفي وسع عارفيه، ومن اقتربوا منه، أَنْ يضيئوا على قناعاته وأفكاره وسجاياه، وفي وسع هذه العجالة أن تؤشر إلى اللبنانية الشفيفة التي أقام عليها، رحمه الله، وأَظنها أمسكت بالمعادلة الأكثر قدرةً على إدراك الدور الجوهري الذي في مقدور لبنان أن يؤديه دائماً، ولو استهدفته النوائب والخطوب من الأصناف المعلومة وغير المعلومة.
في هذا الشأن، كان سليل العائلة البيروتية العتيدة، والتي ما عملت إلا في السياسة "ومشتقاتها"، على ما كتب مرة، يرى لبنان ضرورةً عربية، ولولا أَن لبنان كذلك لما ولد أصلاً. ومن مأثوراته الثمينة أن لبنان لولا المسيحيون ما قام، ولولا المسلمون ما دام. وإذا كانت أجيالٌ من السياسيين والمثقفين اللبنانيين أطلت على فكر منح بيك ونتاجه، واحتكّت به، سجالاً أو اتفاقاً أو مخالفة، فمن حق التالين أن يطالعوا هذا الرجل، فلديه ما قد يسعف الحيارى، وما يسترشد به التائهون. ومن دروس فيه أنه حافظ على مقادير غزيرة من الاستقلالية لشخصه، فلم ينضوِ تحت عباءة زعيم، ولا ارتجى مظلةً من الداخل أو الخارج. وقد تكون عزوبيته مكّنته من أن يتسلح بمناعاتٍ أقوى في مواجهة تقلب الأحوال والظروف، والواضح أنه لم يسعَ إلى مناصب ومواقع، واكتفى بعزلة المثقف الذي يسمع وينصت، ويأمل أن يُسمَع ويُنصت إليه. وإذ كان قريباً من الرئيس فؤاد شهاب، وعمل في مكتبه، وصاغ خطاباتٍ له، فقد كان في مقدوره أن يبني لنفسه موقعاً سياسياً، أو مواقع ومراتب، في الموزاييك اللبناني المعلوم، ولو فعل، لربما فقدنا مدونةً فكريةً وثقافيةً رصينة، وربما خسر لبنان عمراناً سردياً أنيقاً، وشاهداً رائقاً على أزمنةٍ بديعةٍ وأخرى كاسدة.
كتبُ منح الصلح قليلة، منها "الإسلام وحركة التحرر العربي"، و"عروبة النخبة وإسلام الجماهير". هل من يقرأ؟

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.