موجز عن غالب شعث
أعتذر لقارئ السطور أدناه عن تضمينها كثيرا من الشخصي، وإن أحْسَب أن ما يشفع لهذا أنه موصولٌ بالعنوان أعلاه.
أصادف، يوما في العام 1983، خبرا عن عودة المخرج إبراهيم أبو ناب إلى عمّان من موسكو، حائزا جائزةً من مهرجانٍ هناك، عن فيلمه "المفتاح". أستغرب، فالرجل صحافي وإذاعي وكاتب مقالة يومية، ساخرة ومحبّبة، وليس معهودا عنه أنه مخرجٌ سينمائي، فأتصل به هاتفيا، لأطلبَ منه أن أحاورَه في مقابلةٍ صحافية، فيوافق، ويُعطيني موعدا مسائيا في مبنى صحيفة الرأي التي كانت تنشُر له زاويةً يوميّة. حاورتُه، وحدّثني عن الفيلم والجائزة والصحافة، ثم نشرتُ المقابلة في صحيفة صوت الشعب التي أقفلت لاحقا (كنتُ طالبا في الجامعة، وربما كانت أول مقابلةٍ أجريها وأنشُرها وأٌكافأ عنها مادّيا). وبعد سنوات، أصادِف في نتفٍ طالعتُها عن نسبة الفيلم إلى المخرج غالب شعث الذي يحدُث أن أتعرّف عليه، في أثناء مُقامي في المغرب للدراسة العليا، في ندوةٍ، في مايو/ أيار 1990. وبعد انتهاء أيام الندوة نهبط، غالب وأنا، بالقطار إلى الرباط التي أمضى فيها أياما أخرى، وكنتُ في صحبته في بعض صباحاتها ومساءاتها. وفي الأثناء، حاورتُه في مقابلةٍ، أظنّها جيدة، قال فيها كلاما مهما عن السينما الفلسطينية، ونشرتها في "القدس العربي"، وأسأله (خارج المقابلة) عن الالتباس في نسبة "المفتاح" (إنتاج 1976) إليه وإلى إبراهيم أبو ناب، فقال كلاما غير طيّب عن الأخير، لأنه وضع اسمَه مخرجا للفيلم، فيما هو مشاركٌ فقط في كتابة السيناريو، وذلك لمّا كان يُشرِف على مونتاج الفيلم وتحميضه في معملٍ في لندن (أُرسِل في هذه المهمة لإتقانه اللغة الإنكليزية).
توفي غالب شعث، رحمه الله، أول من أمس، في القاهرة، عن 88 عاما. وكان قد عاد إلى فلسطين، بعد توقيع "أوسلو"، ليستقرّ ويعمل ويُنجز فيها، غير أنه سرعان ما قفل إلى القاهرة، وقد قال، في مقابلةٍ مع "الجزيرة الوثائقية" في 2012، إنه عاد "إلى بلادٍ لا تشبه بلادي، تسود فيها أخلاقٌ غير أخلاق الثورة التي شاركنا فيها في شبابنا". وهذا القول للمخرج الفلسطيني المقلّ (جدا)، المقدسي الولادة، الغزّي اليفاعة، متّسقٌ بما أقام عليه، منذ شبابه البيروتي، في إطار مؤسّسة منظمة التحرير، بعد مغادرته العمل في التلفزيون المصري (من 1968 إلى 1974)، وبعض وقتٍ في عمّان. وأظنّه كان موفّقا عنوانُ محاورتي الصحافية معه منشورة "السينمائيون ليسوا طرفا في معادلة الثقافة الفلسطينية". ومما قاله فيها إنه دخيلٌ على السينما التسجيلية، لأنه يعتقد، بصدق، إن إنجازه فيلما روائيا أسهلُ عليه من إنجاز فيلم تسجيلي له قواعده الخاصة. وجاء على "المفتاح"، مرجّحا أنه نجح في مهرجانات وأوساط أجنبيه لخلوّه من العنف والبندقية التي لا يرى حضورها في السينما التسجيلية الفلسطينية خطأ، وإنما الخطأ الاعتقاد أنها كل شيء.
درس غالب شعث هندسة العمارة في جامعة القاهرة، قبل عمله بعض الوقت في السعودية، ثم حصوله على دبلوم الهندسة في فيينا التي كانت محطّة شديدة الأهمية في سيرته المهنية والشخصية، ففيها شاهد أفلاما وتعرّف على فضاءات فنية أوروبية عالية، غير أن مشاهدته أفلاما تُناصر الصهيونية هناك جعلته يتّجه إلى دراسته العليا في السينما والإخراج، وقد حاز شهادته في 1967، عام النكسة التي تعرّف قبلها على حركة فتح في أوروبا وانتسب إليها. وأحرز تجربةً مهنيةً مهمةً في التلفزيون المصري، عندما أنجز تمثيلياتٍ وسهرات، قبل إخراجه فيلمه الروائي الوحيد، والذي اشتُهر به طويلا "الظلال في الجانب الآخر" (محمود ياسين، نجلاء فتحي، مديحة كامل، إنتاج 1974)، والذي منعته الرقابة أولا، قبل أن تجيزَه بعد نيله جائزة في مهرجان في تشيكوسلوفاكيا (شاهدتُه أول مرّة في تطوان بصحبة غالب).
كان طيّبا من الفقيد الكبير أنه أصدر كتاب مذكّراته "من أوراق مهاجر" (دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس، 2019)، وهو بمثابة جزء أول (400 صفحة)، تقف المرويات الشائقة فيه، والبديعة في مواضع غير قليلة (مع التسامح مع الأخطاء النحوية والتحريرية والإملائية الكثيرة)، عند مغادرة غالب إلى بيروت للالتحاق بالمؤسّسة الفلسطينية الرسمية، في 1974. ولمّا علمتُ من الناشر أن أجزاء أخرى للسيرة قيد النشر قريبا (ضمن سبعة كتبٍ للراحل لم تُنشر)، فهذا خبرٌ يبعث على الغبطة، فقد حضَرت في الكتاب تجربةُ لجوءٍ فلسطينية، يمثلها شابٌ فنانٌ مثقفٌ طموح، صاحبُ موقفٍ ورأي، فيه عن أسفار كثيرة، وعن نساء وبلدان وأفلام، وفيه كثيرٌ عن المهني والشخصي، وعن العام، وعن فلسطين .. شكرا غالب شعث.