موجز عن "السلبطة"

جاء أستاذنا، ميشيل كيلو، عرَضاً، في مقالته في "العربي الجديد"، الأحد الماضي، على "السلبطة" التي يمارسها الحزبي (المنتسب إلى حزب البعث) في سورية. وهذه مفردة يخلو منها "لسان العرب" لابن منظور، لأنها عاميّة، وإنْ تتصل بفعل السلب، وهذا نوعٌ من السرقة بالعنف غالباً، فيما السلبطة (لا داعيَ للقوسين) أَخذ ما لدى الغير بالاحتيال والابتزاز والنصب والتخويف، وتزعم أنه حق لك. وكان ظني أنَّ عاميّتنا، نحن أهل بلاد الشام، تستأثر بهذه المفردة التي يتولد منها التسلبط والسلبطجي، إلى أن صاح رئيس الوزراء المصري، إبراهيم محلب، قبل شهور، أمام عمالٍ في مصنع في منطقة أبو زعبل، يحثّهم على مزيد من العمل والإنتاج، بقوله لهم مهدداً، مع تقطيبةٍ ظاهرةٍ على محيّاه، إن زمن السلبطة انتهى. ولمّا كان لكل مقام مقال، فإن ما بدر من محلب في تلك الواقعة كان في غير مقامه، فأي عاملٍ مصري، مهما راودته نفسه بالتسلبط، لن يقترف مقدار خردلةٍ من السلبطة الفادحة التي يحترفها النظام الحاكم الذي ينتسب إليه رئيس الوزراء المذكور، بدءاً من ليلة 3 يوليو إيّاها، مروراً بتعيين عبد الفتاح السيسي رئيساً، في يومين من الاقتراع الانتخابي إيّاه، أضيف إليهما يوم ثالث.

أحدث إبراهيم محلب في صيحته تلك أمام أولئك العمال تنويعاً جديداً في مذمّة السلبطة، فالمعهود أَن يتهم الناس حكوماتهم بها، غير أنه اجترح عكسه. ومن ذلك أن نائباً أردنياً، في جلسة للبرلمان، لم يجد غضاضةً (ما الغضاضة؟) في اتهام حكومة عبدالله النسور الراهنة بأنها "لا تجيد سوى التفنن بالسلبطة على حساب المواطنين وجيوبهم". ولم يكن النائب المحترم ليرمي الحكومة بهذا الحجر الثقيل، لولا ما يُغالبه الأردنيون من وطأة تكاليف المعيشة. ولإعطاء كل ذي حقٍّ حقه، ليست الحكومات وحدها التي تقترف السلبطة وفنونها، فثمّة صنوفٌ بلا عدد منها، يحدث أن تُصادفك في تفاصيل غزيرةٍ في أي وقت، وفي غير شأن. سائق التاكسي عندما لا يعيد إليك الباقي من أجرته، مثلاً.

وعلى وفرة ما في مجتمعاتنا العربية وحكوماتنا الرشيدة، من ألوان السلبطة وأنواعها، وفي مستوياتٍ عريضة، دنيا ووسطى وعليا، فإنك، لا تعثر، (في حدود معرفة صاحب هذه السطور) على دراساتٍ اجتماعية، جادة وعلمية، تستوفي الظاهرة وتتقصّاها. ولعل ما كتبه الشاعر والمسرحي وكاتب الدراما السوري، ممدوح عدوان، عن السلبطة، هو الأميز عنها، في مقالتين غير قصيرتين، لم تقدّما تشريحاً اجتماعياً لها، وإنما يسّرتا قدراً طيّباً من الإحاطة بها وبإحالاتها. ومن ذلك أنه أعطى المتسلبط اسماً آخر، هو المتنمّر، وكتب أن من طبائع هذه الشخص ميله إلى فرض إرهابه الشخصي على الآخرين، كما القوّاد الذي يتسلبط على العاهرات بدعوى حمايتهن. ويذكّر عدوان برواية الألماني، هيرمان هيسّة، "دميان" (لا يذكّر بأنه الذي نقلها إلى العربية)، ويراها، بشكلٍ ما، عن السلبطة، فهي عن ولدٍ يتصاغر أمام ولدٍ آخر متسلبط، يسيّره ويُجبره على سرقة أشياء من بيته، ليجلبها له، ثم يطلب منه جلب أخته، ليتسلى معها المتسلبط. ويأتي الشاعر الراحل على نوعين من التسلبط، الوظيفي والعائلي، ويخوض في تمييزٍ نابهٍ بينهما، استناداً إلى أبحاثٍ أجنبية في الموضوع، ومما يوضحه أن تسلبط المسؤول على الموظفين لا يتم إلا في غياب معايير وظيفية في العمل. وفي كتابته عن ذلك كله، يأتي ممدوح عدوان، بتفصيلٍ جيد، على الشبيحة والتشبيح، لصلتهما بالسلبطجية والسلبطة. (المقالتان نشرتا في كتاب صدر في العام 2007).

الحاجة ماسّة (أو مسِيسة؟) لأن يتنكّب أهل الاختصاص في علوم الاجتماع والسياسة درس السلبطة، نظاماً مركباً في الحكم والإدارة والتسيير، وخياراً فردانيا رائجاً، فلا تزيّد في الزعم، هنا، أن تفشّي السلبطة في ممارسات السلطات وأدواتها وأذرعها، في غير مطرحٍ عربي، وكذا في ممارساتٍ عديدة في المجتمعات العربية، واحد من أوجه خرابٍ شاسعٍ بين ظهرانينا.